إن طول العمر لحصول الأجر من أعظم نعم الله تعالى على العبد ، فلا أعظم سعادة من عبد مؤمن كلما طال عمره زاد أجره وعظم ثوابه وكبر فضله عند ربِّه ، فكانت أيامه ولياليه عامرة بالطاعة مملوءة بالخير ، فخيركم من طال عمره وحسن عمله ، لأنه جامعٌ للكنوز ، كاسب للدرر ، غانم للجوهر ...

ولا أعظم حسرةً وأطول خيبة من عبد قصير عمره ، قريب أجله ، طويل أمله ، قليل عمله !

ضاعت أيامه القليلة في الغفلة المطبقة والمعاصي المهلكة ، وبينما هو سادر في غفلته دهمته منيته ، فلقي ربَّه وهو خالي اليدين ، فارغ الجراب ، مفلس الحصيلة ، مبلس الحيلة ، فكان من النادمين !
ومن رحمة أرحم الراحمين بنا ، أن جعل لنا مواسم مباركة نتزود فيها من الغنائم ، ونتحصَّل فيها على العظائم ، ونجمع منها ما يسرّنا رؤياه يوم أن نلقى الله ...

ومن أعظم وأكرم هذه المواسم ؛ شهر الخير والبركة ، والنور والسرور ، والعبادة والطاعة ، والإقبال والتوبة .. شهر رمضان ..

شهرٌ تُقال فيه العثرات ، وترفع الدرجات ، وتجاب الدعوات ، وتمحى السيئات ، وتضاعف الحسنات ، ويقال لباغ الخير أقبل فهذا موسم النفحات وزمان الأعطيات ، ويقال لباغ الشرِّ أقصر فما عاد في العمر مبرر للضياع أو داعٍ للإعراض ، ومن حرمته ذنوبه من خير رمضان ، فيا طول خيبته ، ويا عرض حسرته !!

فعن سعيد ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن هذا الشهر قد حضركم ، و فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرمها فقد حرم الخير كله ، و لا يحرم خيرها إلا محروم 1. ‌

فقل لي بربك ..

متى يُقلع ويتوب المتلطخ بالذنوب إن لم يكن في رمضان شهر التوبة والغفران ؟!

متى يتحرَّر أسير الهوى ومقيَّد الخطى إن لم يكن ذلك في زمان تصفيد عدوه الشيطان ؟!

متى ينال الرضى إن لم يكن في وقت الإقبال والإمهال وبسط نفحات الرحمات ؟!

أيقبل من مسلم أغلقت من أجله أبواب النيران ، وما زال يقرع أبوابها بالمعاصي ؟!

أيعقل من عاقل تُفتح له أبواب الجنان ، ويُعرض عن الدخول فيها ؟!
إن رمضان ـأيها الكرام ـ فرصة عظيمة ومناسبة كريمة نتخفف فيه من أحمالنا من الذنوب ، ونملأ فيه جرابنا من الحسنات ، وهو من أعظم الشفعاء لنا يوم لقاء ربِّنا ، فويل لمن كان شفيعه خصيمه !

فعن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" الصيام و القرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام : أي رب إني منعته الطعام و الشهوات بالنهار ، فشفعني فيه يقول القرآن : رب منعته النوم بالليل ، فشفعني فيه فيشفعان 2 .

ولا يعرف قدر رمضان أو يعلم فضله إلا من حُرم منه ، فرمضان أمنية أهل القبور لما فيه من زيادة الغنائم وترادف الأجور ..

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان أخوان من بلي من قضاعة أسلما مع رسول الله ـ صلى الله عليه ةوسلم ـ فاستشهد أحدهما ،وأُخِّر الآخر سنة ، فقال طلحة بين عبيد الله ـ رضي الله عنهما ـ فرايت المؤخر منها أُدخل الجنة قبل الشهيد ، فتعجبت لذلك ، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال :" من أيِّ ذلك تعجبون ؟! فقالوا : يا رسول الله ! هذا كان أشد الرجلين اجتهاداً ، ثم استشهد ،ودخل هذا الآخر الجنة قبله . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أليس قد مكث هذا بعده سنة ؟" قالوا : بلى . قال :" وأدرك بعده رمضان فصام ؟ وصلى كذا وكذا من سجدة في السنَّة ؟ " قالوا : بلى . قال ـ صلى الله عليه وسلم :" فما بينهما أبعدُ ممَّا بين السماء والأرض 3 .

فشمِّر عن ساعد الجد ، وجِدَّ واجتهد ، وأر الله منك خيراً في هذا الشهر ، ولا يكن تجار الدنيا فيه أحرص منك عليه ، فأنت من تُجار الآخرة ، فلا ترضى فيه بأقل المكاسب !
-------------------------------------------------
1 رواه البيهقي ، انظر : صحيح الجامع رقم 2247
2 أخرجه أحمد في المسند والطبراني في الكبير والحاكم في المستدرك ، انظر : صحيح الجامع رقم 3882
3 صحيح سنن ابن ماجه (2/346)(3171) .