الحمد لله التواب الرحيم ، الغفور الكريم ، والصلاة والسلام على الرسول العظيم ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :

فما من عبد إلا وله ذنوب وعيوب ، قلَّت أو كثرت ، دقَّت أو جلَّت ، وهي سبب العقاب في الدنيا والعذاب في الآخرة ، ولو أن الله ـ تبارك وتعالى ـ يؤاخذ العبد بكل ذنوبه لأخذه بها ، ولما ترك على وجه الأرض من يدبُّ عليها أو يدرج فيها .
قال تعالى :[ ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة ...]

ولكنه ـ من رحمته بخلقه ـ يعاقبهم ببعض ذنوبهم ، ليتوبوا إليه ، وينطرحوا ـ نادمين خاضعين ـ بين يديه ، فقد عرَّفهم ضعفهم ، وبين لهم فقرهم ، وألمح لهم عن بعض قوته وقدرته ، فمن له طاقة بقوة الله ، أو قدرة لاحتمال بطش الله ؟!
قال تعالى :[ ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ]
فسبحانه من إله !
عقوبته لهم رحمةً منه بهم !! فلعلَّهم يرجعون ويتوبون وينيبون ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون !

ولذلك فالمؤمن يقض الإحساس ، حيّ القلب ، متوقد الشعور ، يطيع الله تعالى وهو من عذابه خائف ، ومن رد عمله عليه مشفق ، أما المنافق والظالم لنفسه فلا يلوي على شيء ، يسدر في غيِّه ، ويستمر في طغيانه ، ويتمادى في عصيانه ، ويتمنى على الله الأماني ، فقد جمع بين عدم العمل وطول الأمل ، فكان من المفلسين ، وهو مع ذلك فرح بدنياه التي انكبَّ عليها ، منشغل بماله الذي جمعه ومنعه ، فرح بحياته المستقرَّة ، مبتهج بأنه في عيش رغيد ، ومال وفير ، ورزق كثير ، دنياه تتزين له بكل مبهجة ، فاشتغل بها عن الغاية من خلقه ، والسبب في وجوده ، قد اعتقد أن عدم نزول العقوبات عليه لكرامته على ربه ، أو لعدم وجود العذاب والعقاب في يوم الحساب ، فكان من المستدرجين من رب العالمين ، فإن الله تعالى عجَّل له من متاع الدنيا الدنيئة لحقارتها على ربها ، ليدَّخر له العذاب الكامل والعقاب المتواصل في يوم الندامة .

قال تعالى :[ فلا تعجبك أموالهم ولا أولا دهم إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كارهون ]
فلا تغتر بالدنيا ، ولا تشتغل بجمعها ، ولا تفرح بها ، ثم لا تأسى إذا نزلت بك من الملمات والكربات والنكبات ما يمحصك الله به ، ويطهر صحيفتك بنزوله عليك ، فإن الله تعالى ـ من رحمته بعبده المؤمن ـ إذا هو عصاه أن يعجل له عقوبته في الدنيا ليحميه منها في الآخرة ، وإن كان الفرق شاسع والبون واسع بين العقوبتين والعذابين ، فعذاب الدنيا تنزل معه من الرحمات والبركات والصبر ما يهون به العذاب ، وما يصغر به العقاب ، أما عذاب الآخرة فلا طاقة للعبد به ، ولا احتمال له عليه .
فهل أنت عبدٌ أراد الله به خيراً ؟!

فعن عبد الله بن المغفل : أنّ رجلاً لقي امرأة كانت بغيَّاً في الجاهلية ، فجعل يلاعبها ؛ حتى بسطَ يده إليها ، فقالت : مه ؟! فإنَّ الله قد اذهب الشركَ وجاء بالإسلام ، فتركها وولى ، فجعل يلتفت خلفه ، وينظرُ إليها ، حتى أصابَ وجهُهُ حائطاً ، ثم أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والدمُ يسيلُ على وجهه ،فأخبره بالأمرِ ؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم :" أنتَ عبدٌ أراد الله بكَ خيراً " ، ثم قال :" إنّ الله جلَّ وعلا إذا أراد بعبدٍ خيراً ؛ عجّلَ عقوبةَ ذنبه ، وإذا أراد بعبدٍ شرّاً ؛ أمسكَ عليه ذنبه ؛ حتى يوافى يوم القيامة كأنّه عائر ـ وهو جبل عظيم بالمدينة "
السلسلة الصحيحة (1220) وصحيح موارد الظمآن (2/461) (2079) .

فيا من ألم بالذنب ، ووقع في الخطيئة ـ وكلنا ذلك الرجل ـ لقد آن لك أن تتوب ، وإلى الله تؤوب ، فتتطهَّر من الذنوب ، وتتبرأ من العيوب ، فإن علام الغيوب يناديك ، ويفتح لك أبواب التوبة والرجوع إليه ، والتطهر من الذنوب قبل أن توافيه بها ، فيعاقبك عليها .

فهيا ! قم لتغتسل بماء الوضوء ولتنغمس في نهر الصلاة ، وأعقب كل ذنب بتوبة ، واخلف كل خطيئة بالاستغفار . فقد قال تعالى :[ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ]

وعن علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما من عبدٍ يذنبُ ذنباً ، ثم يتوضأ ، ثم يصلي ركعتين ، ثم يستغفر الله لذلك الذنب ؛ إلا غفر الله له "
صحيح سنن أبي داود (1361) و تخريج المشكاة (1324) وصحيح موارد الظمآن (2/460) (2078) .


فالرجوع .. الرجوع قبل وقوع العذاب في يوم الحساب ، فإن اليوم عمل ولا حساب ، وغداً ـ وا لهف نفسي من غدٍ ! حساب ولا عمل !