بسم الله الرحمن الرحيم
مراحل الحكم على المعين (2)
الأسماء والأحكام الباطنة
مقدمة:
(الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُون).
قال كعب الأحبار: هذه الآية هي فاتحة التوراة، وهي أعظم كتب الله بعد القرآن.
ففي هذه الآية ذكر الله العلو والسُفل،والنور والظلمات،وعلى هذا بُنيت الدنيا والآخرة؛ففي الآخرة جنة عالية مضيئة،وحفرة سفلية مظلمة، على متنها صراط يصعد بسالكه لتلك الجنة؛قال الله تعالى: (فِي جَنَّةٍ عَالِيَة) وقال عن رجل من أهل الجنة أراد أن يبحث عن قرين له في الدنيا من أهل النار: (قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُون فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيم) والاطلاع يكون من فوق.

كذلك الدنيا فيها دائرة عُلوية مضيئة هي دائرة الإسلام والإيمان، وحفرة سفلية مظلمة محيطة من كل الجهات؛هي دائرة الكفر والشرك،فليس في الدنيا إلا توفيق الله أو الكفر،وليس في الآخرة إلا عفو الله أو النار. قال الله تعالى: (وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء) وقال: (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى) وقال: (أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ) وقال: (عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ). وليس ثمة طريق يصعد من الحفرة المظلمة إلى دائرة النور إلا طريق واحد مستقيم ؛ قال تعالى : (اهدنا الصراط المستقيم) وقال(هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيم) وقال: (وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ).وفي حديث النواس بن سمعان: (ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً..).وقد شرحه ابن رجب في رسالته الرائعة (مَثَل الإسلام).

وفي صعود هذا الصراط ما يبين أن العبد لا يكون مؤمناً حتى يترك الكفر وأهله بقلبه وقالبه؛ فمن ترك الكفر بقالبه دون قلبه فهو المنافق،ومن تركه بقلبه دون قالبه؛ فقد توعد الله بجهنم على ترك الهجرة حاشا العاجز.

والأبواب المخرجة من الدائرة العلوية،والملقية في الحفرة السفلية المظلمة سبعة أبواب على عدد أبواب جهنم؛قال الله تعالى: (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُوم) فلا يسقط العبد في تلك الحفرة إلا إذا خرج من أحد هذه الأبواب ولم يكن له عذر سائغ،وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله.

قصة الظلمات والنور:

خلق الله الجنة والنار قبل خلق الخلق،ثم خلق آدم،ثم أخرج ذريته كأمثال الذر،وفرزهم حسب علمه بهم وحكمته فيهم؛ فمن علم فيه الخير ومحبة الحق جعلهم في اليمين وألقى عليهم من نوره وقال: (هؤلاء للجنة ولا أبالي)،ومن لم يعلم فيهم خيراً_ ولو أسمعهم _ جعلهم في الشمال وتركهم في الظلمات. وقال: (هؤلاء للنار ولا أبالي) ثم خلطهم في الأصلاب؛فتخرج النسمة المضيئة من صلبٍ مظلمٍ والنسمة المظلمة من صلب مضيء.

ثم لما أهبط الله آدم للأرض كان هو وذريته إلى عشرة قرون من النسمات المضيئة، وقد نزلوا في الدائرة العلوية المضيئة، وكانت الحفرة السفلية خالية؛حتى مكر الشيطان ببعض الذرية عن طريق تعظيم الرجال والغلو في العلماء والصالحين والتصوير؛ فأخرجهم وألقاهم في الحفرة المظلمة؛فبعث الله نوحًا عليه السلام وهو أول رسول إلى البشر؛ ليخرجهم من حفرة الظلمات ويردهم للأمر الأول- إلى الدائرة العالية المضيئة- وهكذا بدأت الدنيا؛ فالشيطان يلقي الناس من العلو إلى الحفرة. والرسل تخرج الناس من الحفرة وترفعهم إلى العلو؛ قال تعالى: (اللّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّوُرِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُم مِّنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ) وتأمل كيف أفرد الله النور وجمع الظلمات، ولن يعدو أحد كتابه الأول؛فمن أصابه النور الأول ثم أصابه نور الرسل؛ فكما قال الله: (يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء) وأما الأشقياء فقال عنهم: (وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّور)،حتى كان قبل بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم (نظر الله إلى أهل الأرض كلهم؛فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب) رواه مسلم. كان الناس كلهم في الحفرة إلا أفراد في العالم كله بقوا على التوحيد الخالص، والأرض كلها قد عمها الظلام.فلما بُعث وأظهر النور الذي جاء به بدأ الناس يخرجون من الحفرة، ويصعدون للعلو أولهم أبو بكر الصديق، ثم الواحد تلو الواحد على مدى بضع عشرة سنة، ثم لما أعزه الله في المدينة كثر الداخلون في النور، ونشأ معهم قسم جديد من الداخلين وهم أناس أظهروا الاستسلام والانقياد والتوحيد والصلاة وصعدوا للدائرة العلوية، وقلوبهم كافرة مظلمة؛ لكنهم أرادوا الاستفادة من الامتيازات الممنوحة للمسلمين،ولما كانت الآخرة هي دار الجزاء الحقيقي، والدنيا متاع قليل؛ولرجاء صحة إسلامهم، أمر الله أن تُقبل ظواهرهم ويمنحوا تلك الامتيازات مالم يُظهروا كفرهم الباطن، ومَثَّل الله فعلهم هذا واستفادتهم من النور الممنوح للمؤمنين ثم انتزاعه منهم في الآخرة؛ فقال:(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُون). مع أنهم أحياناً يقتربون من دائرة الإيمان الداخلية،وأحياناً يقتربون من الحد الخارجي وهو شفا الحفرة.وتأمل قول الله في منافقين قالوا يوم أحد:(لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ) فقال عنهم (هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ).ثم منهم من يحسن إسلامه وإيمانه بمصاحبته للمسلمين، ومنهم من يخرج الله أضغانه ويسقط في الحفرة، ومنهم من يبقى مغموصاً عليه النفاق حتى يموت على ذلك.

ومن هنا بدأت قصة الكفر والإسلام، والنفاق والإيمان، والفسق والاستقامة، والعصيان والطاعة.

والحكم على شخص بالكفر أو الفسق أو العصيان بعلم وعدل دون جهل ولا هوى لا يتم إلا بأن يجيب الذي يتصدى للحكم على أسئلة أربعة إجابة مسددة؛ وبدون ذلك لن يوفق للصواب،وعلى باقي المسلمين أن يتعلموا هذه الأسئلة ويواجهوا بها كل من حكم على مسلم بكفر أو فسوق أو عصيان؛لكي تنضبط الأمور ويكون كل شي على الجادة، وهذه الأسئلة الأربعة هي:

أولاً: ماذا يترتب على إلحاق عبد مسلم بأهل الظلمات؟وماذا يترتب على إبقاء كافر مع أهل النور؟

ثانياً: من أي الأبواب خرج المسلم من دينه؟

ثالثاً: كيف علمت بخروجه من ذلك الباب؟

رابعاً:هل له من عذر سائغ؟

وسنلخص الأجوبة­ - بتوفيق الله ومعونته - في النقاط التالية:



السؤال الأول: ماذا يترتب على إلحاق عبد مسلم بأهل الظلمات؟وماذا يترتب على إبقاء عبد كافر مع أهل النور؟

بدأنا بهذا السؤال لكي يعلم العبد إن كان جاهلاً،أو يتذكر إن كان غافلاً خطورة ما هو مقدم عليه.

فنقول: الحكم بكفر شخص من أهل القبلة -كتارك الصلاة والصوفي والرافضي والجهمي ونحوهم- يترتب عليه ما يلي:

أولاً: عمل القلب؛فيجب بغضه واعتقاد كفره والبراءة منه ومجانبته ولو كان قريباً.

ثانياً: الانفصال التام عنه في الدنيا، وينبني على ذلك:

الهجرة عن الكفار،وعدم الإقامة بين أظهرهم،وعدم السفر لبلادهم من غير ضرورة، وجهادهم مع الأئمة إن كانوا ممتنعين أو إقامة الحدود عليهم إن كانوا منقادين، وتحريم بقاء المؤمنات تحتهم؛ قال تعالى: (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) وتحريم ذبائحهم، ومواريثهم، وتحريم دفنهم بين المسلمين، و تحريم الصلاة عليهم وخلفهم ،وعدم مكافأة دمه للموحّد فلا يقتل مسلم بكافر،وعدم عصمة دمه وماله إلا بإسلام أو عهد، وعدم صحة نكاحه إلا إن أسلم وزوجته في العدة،وحرمانه من دخول مكة،وعدم إعطائه من الزكاة الواجبة،إلى غير ذلك من أشياء لا تحصى كثرة، كل واحد منها أعظم من صاحبه، مدونة في كتب الحديث والأثر.

ثالثاً: أحكام الآخرة؛ ومنها:الحكم بحبوط أعماله إذا مات على كفره،والحكم عليه بالخلود في النار إن مات على كفره في الظاهر،وعدم جواز الاستغفار له أو الصدقة عنه أو الحج والعمرة أو الدعاء له.



أما ما استثني في التعامل مع الكافر مما فرضه العيش في هذه الدنيا ولا تأثير له على الحب والبغض فمن ذلك ما يلي:

البيع والشراء منهم،وسكناهم بين المسلمين إذا كانوا لا يُظهرون دينهم،أو كانوا أذلة يدفعون الجزية،أو معاهدين أتوا بعقد مؤقت لمصلحة المسلمين، أو كانوا تجاراً يقيمون في حدود ثلاثة أيام بالنسبة للحجاز،ويمنعون من الإقامة الدائمة في سائر جزيرة العرب.

ومن ذلك التزوج بيهودية أو نصرانية عفيفة؛غير مسافحة ولا متخذة أخدان،متمسكة بدينها ولو كان محرفاً،فرخص لنا أن يتزوجها مسلم متمسك بإسلامه قوي في شخصيته؛مع أن تركه أولى لأمر عمر حذيفة رضي الله عنهما بطلاق اليهودية.

ومن ذلك: بعث السفراء إليهم، والهدنة معهم في حال ضعف المسلمين،وترك قتالهم.

ومن ذلك: التعامل معهم بالقسط إن لم يكن مظاهراً للكفار علينا،مع عدم الإخلال بعزة المسلم (فمن رآهم في طريق فلا يدعه لهم وليضطرهم لأضيقه)،ومن رجي إسلامه منهم، فلا بأس بعيادته كما عاد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الغلام اليهودي فأسلم على يديه، وأما السلام فلا يبدأون به، فإن بدأوا هم فالجواب:(وعليكم). وأما الأكل والشرب والمؤانسة الداعية للمحبة والميل فهي ممنوعة إلا في حالة المداراة الشرعية عند رجاء إسلامه خلافاً للمداهنة.وعلى العموم فكل ما لا يؤثر في الحب والبغض من أمور الناس العادية مما نحتاج إليه فقد رخص لنا فيه،وإذا وجدنا ما يغنينا عنه استغنينا.

وأما الحكم ببقاء شخص في الإسلام رغم كفره الظاهر فهذا يترتب عليه: انعدام الفرق لدى الناشئة بين الكفر والإسلام،وإعطاء الكافر كافة حقوق المسلمين،واستحلاله للزواج من المسلمات،واستحلاله لمواريث المسلمين ونحو ذلك، ويترتب على ذلك عظم فتنته على المسلمين لبقائه بينهم واشتباه الأمر على العامة؛ لانتسابه لأهل القبلة،قال تعالى:( أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟؟ مالكم كيف تحكمون!!).

وبهذا يتبين أن التسرع في إلحاق مسلم بالكفار دون أن يكون كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان هو دين الخوارج، وأن التباطؤ عن إلحاق الكافر الظاهر بالكفار وإبقائه مع المسلمين هو دين المرجئة.

وخطورة التسرع: أن الحكم إن وافق المحل فبها،وإن لم يوافقه رجع الحكم على الحاكم، ففي الحديث (من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما) وهذا وعيد مرعب وإن لم يصل للإخراج من الملة.

وخطورة التباطؤ: أن الشك في كفر الكافر وإبقاءه مع المسلمين يترتب عليه نقض إسلام المسلم إذا شك في الكافر الظاهر؛ولم يفرق بين ملة إبراهيم وما سواها من الملل؛وهذا هو الفساد العظيم.

ومن تيقن أن الدنيا مؤقتة وليست بدار جزاء،وأن الآخرة هي العظمى؛وفيها تبلى السرائر ويُحصّل ما في الصدور؛قَبِل من الناس ظواهرهم حتى يفصحوا عن بواطنهم،والله يتولى السرائر.

قال عمر رضي الله عنه: (إن الوحي كان ينزل فيخبر عن سرائر قوم وإنه قد انقطع ولم يبق إلا ما أقول لكم:من أظهر خيرا قبلناه منه وأحببناه عليه،ومن أظهر شراً رددناه عليه وأبغضناه عليه،وسرائركم إلى الله).أما في الآخرة فلا تواصل معهم البتة حتى في شربة ماء: (ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين). ومن تدبر تعامل رسول الله عليه الصلاة والسلام مع المنافقين مع أن الله قد أخبره ببواطن أكثرهم؛رأى العجب وفيه أسوة.كذلك تعامل علي رضي الله عنه مع الخوارج لما ابتلي بهم؛ فإنه أطلق عليهم الاسم الظاهر والحكم الظاهر،وقاتلهم لدفع صيالهم على الإسلام وأهله، فلما أريد على تكفيرهم امتنع؛ وقال: (هم من الكفر فروا) مع أنه سمع فيهم الحديث العظيم: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ثم لا يعودون فيه).



السؤال الثاني: من أي الأبواب خرج؟

لاتنفع كلمة التوحيد إلا إذا سبقها الكفر التام بالطاغوت وأهله، وصاحبها شروط هي حسب تحققها في العبد على هذا الترتيب: العلم بمعنى كلمة التوحيد ثم اليقين ثم الصدق ثم الإخلاص ثم المحبة ثم القبول ثم الانقياد؛ فهذه الأمور السبعة هي التي تزين كلمة التوحيد، وتفعّل أثرها وهي المدخلة في الإسلام الحقيقي، وأضدادها هي المخرجة منه، وكل شرط من هذه الشروط قد جاء من أدلة القرآن والسنة فيه وفي ضده ما لا يُحصى كثرة.

ويُقبل من العبد النطق بالكلمة -ولن تنفعه بالآخرة حتى يحقق هذه الشروط- ويعطى الإسلام الحُكمي إذا كفر بالطاغوت ولم يصدر منه ما يناقض الاسلام،ثم يعطى الإسلام الحقيقي إذا صح إسلامه.

قال الإمام الأوزاعي- وهو من أعلم الناس بالكفار وجهادهم-: (إسلامه أن يقول: لا إله إلا الله. فقال الفزاري: فإن قالها بلسانه ولم يعرفها بقلبه؟ قال: إذا قالها بلسانه فهو مسلم، ثم تُعلِّمه) أي: مباشرة (السير للفزاري 117). وقال إسحاق بن منصور الكوسج لإسحاق بن راهويه رحمهما الله:

(إذا جاء رجل من أهل الذمة؛ وقال: اعرض علي الإسلام؟ قال: فإن السنة في ذلك أن تعرض عليه أن يقول: أشهد لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأقررتُ بكل ما جاء من عند الله، وبرئتُ من كل دين سوى الإسلام؛فهذا العرض التام الذي اجتمع العلماء على قَبوله، وصيروه دخولاً في الإسلام وبراءة من الشرك،فإن اقتصر العارض على المشرك الإسلام على الشهادتين والدخول في الإسلام؛ فإن كان ذلك على معنى مجرد الدخول في الإسلام فلا بأس،كما قبله الرسول صلى الله عليه وسلم؛ حين دخل مِدْراس اليهود وعرض على اليهودي من الإسلام قدر هذا؛فلما مات اليهودي قال: "صلوا على أخيكم"،وإنما احتطنا أن يكون الذي يعرض الإسلام يعرض الخصال الأربع كي لا يكون عليه خلاف من العلماء). مسائل الكوسج (3370).

وبهذا يتبين أن العبد إذا خرج من باب من هذه الأبواب السبعة،وسقط في الحفرة، فعودته للدائرة العلوية لا يكون إلا من نفس الباب الذي خرج منه كما فعل الصديق بمانعي الزكاة.



وأبواب الكفر السبعة هي المضادة لشروط كلمة التوحيد والإسلام والإيمان وهي ما يلي:



الشرط الأول: العلم بمعنى كلمة التوحيد ومقتضاها، يقابله الباب الأول: كفر الإعراض.

( فهذا كافر أشاح بوجهه عن حق الله الواضح وضوح الشمس ليس دونها سحاب).

الشرط الثاني: اليقين، يقابله الباب الثاني: كفر الشك والتردد والتوقف.

(وهذا كافر زاغت عيناه من الشك المريب في أمور جلية).

الشرط الثالث: الصدق، يقابله الباب الثالث: كفر النفاق والزندقة.

( وهذا كافر دارت عيناه في رأسه من المكر والمخادعة).

الشرط الرابع: الإخلاص، يقابله الباب الرابع: كفر الإشراك.

( وهذا كافر استهزأ بربه فجعل معه نداً من مخلوقاته ليس كفؤاً له)

الشرط الخامس: المحبة، يقابله الباب الخامس: كفر البغض والكُره والاستهزاء.

( وهذا كافر بدت البغضاء والكراهية والاستهزاء من فمه وما يخفي صدره أعظم)

الشرط السادس: القبول، يقابله الباب السادس:كفر الرد والتكذيب والجحود والاستحلال والإنكار.

(وهذا كافر شمخ بأنفه وارتفع عن عبودية ربه وأراد منازعة خالقه ولم يقبل هداه).

الشرط السابع: الانقياد، يقابله الباب السابع: كفر التولي والامتناع والإباء والاستكبار.

( وهذا كافر ولى الحق دُبُره ولم يَنْقَدْ له ويتواضع ولو كان قد قَبِلَه).

وهذا تفصيلها:



أبواب الكفر السبعة المؤدية لأبواب جهنم السبعة:

الباب الأول: كفر الإعراض وهو يقابل العلم بالتوحيد، وهو مبني على أمرين هما:

1- أن الله بيَّن أمر الإسلام ووضحه وجلّى التوحيد وغرسه في العقول والفطر والأنفس والآفاق.

2- أن الله أمر العباد جميعاً بالبحث عن الحق والانقياد له، فَمِن الله الرسالة،وعلى الرسل البلاغ وعلى الخلق البحث والتسليم.

فمن جهل أمر التوحيد أو جهل أمراً لا يسع أحداً جهله، أولم يبحث عن الرسل ولم يصدقهم،أولم يصغِ لهم البتة، فمثله كمثل الذي يصلي في الحِجر إلى غير الكعبة وهي قد سدت الأفق أمامه ويزعم أنه ما اهتدى إليها،فكل عاقل يسمي هذا معرضاً لا جاهلاً ؛كما سماه الله فقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنذِرُوا مُعْرِضُون) وقال:(بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُم مُّعْرِضُون) وقال: (وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُون) وقال: (بَلْ أَتَيْنَاهُم بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَن ذِكْرِهِم مُّعْرِضُون) وقال:(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا)وآيات الله لا تنحصر في الرسل، وهذا حال الكفار في أزمان (الفترة) فهم مع المكذبين كأهل الجهل البسيط مع أهل الجهل المركب وكلهم كفار.

ولما بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام بالحق؛ من الناس من آمن به،ومنهم من صد عنه بوجهه وأشاح وأعرض فلم يصدق ولم يكذب ولم يهتم،ومنهم من كذب وأبى واستكبر؛ قال تعالى: (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ) فالأول المشرك المعرض فكل مشرك مفتري ولا شك، والثاني المشرك المكذب؛وشهادة التوحيد لا تنفع إلا بالعلم كما قال تعالى: (إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون)؛ فمن زعم أن من لم يترك ملة الأوثان ولم يكفر بالطاغوت وشهد الشهادتين بلسانه أنه مسلم، أو زعم أن من فعل الشرك يظنه من باب تعظيم الصالحين معذور، أو زعم أن الله ليس في السماء مع أن الحيوانات العجماء تشهد بذلك كله ونحو هذا؛ فكفره كفر إعراض عن الحق رغم وضوحه وهو ظالم.

قال الونشريسي- من علماء فاس-: (من نشأ بين أظهر المسلمين ينطق بكلمة التوحيد إلا أنه لا يعرف المعنى الذي انطوت عليه هذه الكلمة الكريمة لا يضرب له في التوحيد بسهم، ولا ينسب إلى إيمان ولا إسلام بل هو من جملة الكافرين وحكمه حكم المجوس في جميع الأحكام إلا القتل) أي أن المجوس تقبل منهم الجزية وهو ليس كذلك؛ قال تعالى: (وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُون) وقال: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير) فالجاهل: من خلا من العلم، أو اعتقد الشيء بخلاف ما هو عليه، أو فعل الشيء بخلاف ما حقه أن يفعل؛ فإن كان في الأمور الجلية الواضحة البينة فهو مُعرِض، وخاصة ما يتعلق بأسماء وصفاته ووحدانيته، والمعلوم من الدين بالضرورة وما وضحته السنة، واستفاض عند المسلمين.وبهذا الباب من الكفر تموت المسألة الخبيثة التي ألقاها الشيطان على ألسنة بعض الناس ليهدم بها الملة؛وهي أن المشرك معذور بجهله حتى يأتيه رسول، وأنه لا كفر إلا كفر التكذيب والرد للحجة بعد بلوغها.وهي متعلقة بالتجهم والإرجاء الغالي الذي يعلق كل شيء بالقلب.



الباب الثاني: كفر الشك والتردد والتوقف، وهو يقابل اليقين بالتوحيد وهو مثل الذي قبله، لكنه لم يُعرض بل شك بعد العلم وتردد وتوقف في الأمور الظاهرة. فالأول: خلاف العلم الواجب، وهذا خلاف اليقين الواجب؛ قال الله عن الكفار: (وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيب - قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ) وقال الله عنهم: (إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيب) وقال: (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُون) وقال: (قُلْ يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ). وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أشهد ألا إله إلا الله وأني رسول الله لا يلقي الله بهما عبدٌ غير شاكٍ فيهما إلا دخل الجنة) رواه مسلم. وفي المسند قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل ينازع الله إزاره وإزار الله العز،ورجل في شك من الله والقنوط من رحمة الله). فمن شك أو تردد أو توقف في وحدانية الله وتفرده بالعبادة وبالغيب،أو شك في كلامه أو في حرف منه، أو شك في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو وجوب طاعته أو في عصمته في التبليغ، أو في اليوم الآخر،أو في صحة دين الإسلام وبطلان جميع الأديان،أو شك في كفر المشركين ولو تسموا بالإسلام، أو شك في كفر القائلين بخلق القرآن،أو كفر من سب الله وشتمه- تعالى الله عن ذلك- أو شتم الأنبياء أو جنس الصحابة،فكل هذا الشك والتوقف كفر؛وقد حكى ابن تيمية رحمه الله في الصارم المسلول الإجماع على كفر من استغاث بعليٍّ وعلى كفر من شك أو توقف في كفره؛ لأنه لم يتيقن بالتوحيد وكلمة التوحيد، وهي لا تنفعه إلا باليقين. لكن يجب التفريق بين الشك وهو عمل قلبي، وبين الوسوسة وهي خواطر شيطانية يهجم بها الوسواس الخناس على قلوب المسلمين، وهم يدافعونها ويهون عندهم أن يخروا من السماء ولا يعتقدونها؛ فهذه المدافعة صريح الإيمان والأول صريح الكفر.



الباب الثالث: كفر النفاق والزندقة: ويقابل الصدق، وهو فيمن قال كلمة التوحيد عالماً بمعناها غير شاكٍ فيه،لكنه قالها وهو غير صادق في الاستسلام لها والانقياد،بل هو ممن (اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً) أرادها أن تحمي دمه وماله؛قال تعالى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) والتوبة عليهم توفيقهم للإسلام قبل الممات، وقال تعالى: (إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُون) وقال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِين - يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا). والآيات فيهم لا تكاد تحصى.

فالقسمة الرباعية هي:

1- من صدّق في ظاهره وباطنه وهو المؤمن.

2- من كذّب في ظاهره وباطنه وهو المُعرِض عن التوحيد والشاك فيه.

3- من كذّب في ظاهره وصدّق في باطنه وهم أكثر الكفار؛ قال تعالى: (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ) وقال: (وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا) وقال: (بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ) وقال موسى عليه السلام لفرعون: (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ) فهذا كفر إبليس وفرعون واليهود وقريش وأغلب الكفار ، فكفرهم مركب، لكنهم أوضح ممن بعدهم.

4- من صدّق في ظاهره وكذّب في باطنه وهم المنافقون، ولهذا فبابهم هو الأسفل من أبواب جهنم السبعة،وهم في الدرك الأسفل من النار. وهم أيضاً كفرهم مركب.

لكننا أُمرنا أن نقبل ظواهرهم في الدنيا ما لم يُظهروا ما في بواطنهم، كما لو فرحوا بظهور الكفار على الموحدين،أو استهزأوا بالدين،أو أبغضوا جنس المؤمنين. قيل للإمام أحمد: (يا أبا عبدالله ذكروا لابن أبي قتيلة بمكة أصحاب الحديث فقال: أصحاب الحديث قوم سوء، فقام أبو عبدالله وهو ينفض ثوبه، وقال: زنديق زنديق زنديق، حتى دخل البيت). (طبقات الحنابلة 1/38).

كذلك من امتنع عن الاستسلام لحكم الله قال تعالى: (وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِين).فكل من أظهر كفراً من المبتدعة والمنافقين المظهرين لدين الإسلام سمي: (زنديقاً) و(منافقاً نفاقاً اعتقادياً أكبر)،وحكم بردته وقتله دون استتابة؛ لعظم خطره.