بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن من تدبر ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام من التشديد على من أفتى بغير علم ويقين؛ حتى جعل الله القول عليه بغير علم أعظم من الشرك فقال مرتباً الذنوب من الشديد إلى الأشد (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينـزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون)
ثم تدبر ما ورد من التقييد على المستفتي ألّا يسأل إلا عند عدم العلم فقال تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون).
وتدبر ما جاء في قوله عليه الصلاة والسلام ( إن الله كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال). وما جاء عنه أنه يكره المسائل ويعيبها حتى كان الصحابة يفرحون بالأعرابي العاقل يسأل النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك ما جاء عن الصحابة من التشديد على المفتي والمستفتي حيث قالوا - يروى مرفوعاً وموقوفاً- ( أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار) ( ومن سره أن يتقحم جراثيم جهنم فليجترئ على الفتيا) وقالوا ( من ترك لا أعلم أصيب مقاتله)
وكانوا يشددون على المستفتي ويقولون له إذا استفتى ( هل ابتليت بهذا؟) فإن قال: (لا، ولكني أسأل) قالوا: ( أعفنا منها حتى تقع ) وقي مقدمة سنن الدارمي أبواب نفيسة في هذه المعاني.
فمن تدبر هذا كله ثم تدبر حال الناس اليوم ومسارعتهم الشديدة إلى الإفتاء والاستفتاء والإفراط في ذلك وجد البون شاسعاً والفرق بعيداً في فهم الفتوى ماهي ؟! عند أسلافنا وعندنا؛ حتى أوشك أن يكون عند أهل زماننا لكل عشرة مفتياً ، وحتى صار همهم الاستفتاء عن كل شئ.
وملخص الفهم الصحيح للفتوى ( أن الفتوى كالوصفة الطبية ) و ( أن المفتي كالطبيب).
قال أبو هلال العسكري في الفروق اللغوية: ( الفرق بين المسألة والفتيا: أن المسألة عامة في كل شيء والفتيا سؤال عن حادثة، وأصلها من الفتاء وهو الشباب وسميت الفتيا بذلك لأنها في حالة الشابة في أنها مسألة عن شيء حدث).
وسأوضح أوجه الشبه بين الحالتين حتى يتضح المراد من خلال المقارنات التالية:
أن الوصفة الطبية تحتاج إلى علم عميق بالطب ثم علم عميق بواقع المريض ثم تطبيق العلم على الواقع وهكذا الفتوى، بخلاف تعليم العلم فإنه ينشر وتوضح الأدلة ،ولكن عند التنزيل على واقعة معينة لا بد من أشياء أخرى.
أن عقلاء الأطباء يمتنعون عن منح الوصفات الطبية على الهواء من خلال الهاتف أو الإعلام ويأمرون المريض بالتوجه للعيادة ليتأكد من واقعه ، وإنما يتكلمون على الهواء عن الأمور العامة التي يشترك فيها الناس وهكذا الفتوى الخاصة المرتبطة بواقع السائل لا تصح على الهواء فتضل الناس حيث يسمعها البعيد الجاهل ويظن أن حكمهما واحد وهو ليس بواحد، كالإفتاء في واقعات الطلاق مثلاً مع أن واقع المطلقين مختلف.
أن الطب لا يُتعلم عن طريق تعلم الوصفات الطبية للأطباء وإنما يستأنس بها، ولكن لابد من ضبط أصوله ومعرفة قواعده وهكذا العلم الشرعي لا يتعلم عن طريق تتبع الفتاوى دون إحكام الأصول؛ فالمتفقه بالفتاوى كالمتطبب بالوصفات.
أن الرجل العاقل لا يُخفي على الطبيب شيئاً من واقعه ومرضه لأنه يعلم أن أي معلومة قد تؤثر في تشخيص المرض ووصف الدواء، وهكذا المستفتي العاقل لا يخفي على المفتي واقعه حتى يفتيه بمايحب أن يسمعه ويوافق هواه. هذا إذا كان مراد المستفتي براءة الذمة والبحث عن رضى الله تعالى ومراده.
أن العاقل لا يسأل الطبيب سؤالاً عاماً ثم يطبقه على نفسه فقد يكون عنده من الموانع مايسبب خطراً عليه ، وهكذا المستفتي العاقل لا يسأل سؤالاً عاماً ثم يطبقه على نفسه.
أن من تمسك بالأصول العامة للصحة لا يحتاج للطبيب إلا في النادر وهكذا من تمسك بالأصول العامة للشريعة مثل ( إنما الأعمال بالنيات ) ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ) ( دع مايريبك إلى مالا يريبك ) ( الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فمن وقع في الشبهات وقع في الحرام ومن ترك الشبهات إستبرأ لدينه وعرضه) ( الإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس ) فمن تيقن بهذه الأصول وتمسك بها لم يحتج لأكثر الاستفتاءات ، واستغنى بهذه الأصول ولو كان في أعماق الصحراء وأعالي الجبال.
إن المرض إن كان خفيفاً استغني بالطبيب العام فإن اشتبه فالأخصائي فإن كان مشتبهاً جداً فلابد ممن شاب وبرع في هذا الفن ومارسه طويلاً ورسخ فيه وهكذا الفتاوى. ولذا أمر الله بسؤال أهل الذكر في موضع وبين أن المراد بهم أهل الحديث فقال بعد الأمر بسؤالهم ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس مانزل إليهم ) والذكر هو الحديث واهل الذكر هم أهل الحديث. لكن في الأمور المتشابهة أشار للراسخين في العلم كما في الآية السابعة من سورة آل عمران. إن العرب لتقول ( ترك بعض التطبب طب ) وأيضاً ( ترك كثير من الاستفتاء والتمسك بالأصول علم).
أن الطبيب لو أخبرك بعلاج معين ولم تطمئن إليه وليس فيك وسواس فمن العقل عدم استخدامه وطلب مزيد علم، وكذلك الفتوى ( فالاثم حوازّ القلوب ، وما حك في صدرك وإن أفتوك وأفتوك).
أن المفتي الجاهل أحق بالحبس والحجر عليه من الطبيب الجاهل، فإن كان الطبيب الجاهل يفسد الأبدان فالآخر يفسد الأديان.
أن الذهاب للطبيب عند الحاجة لا يقبل التوكيل بل لا بد من ذهاب المريض بنفسه وكذا في الاستفتاء الأصل أن يذهب من ابتلي بالحادثة بنفسه لأن المعلومة التي قد يتهاون بها قد تكون مؤثرة في الحكم جدا.
وقد يضيف القراء الكرام أوجهاً أخرى للشبه تعين على تصحيح الفهم الخاطئ للفتوى في زماننا فأكتفي بهذا القدر وصلى الله على نبينا محمد.
*** للشيخ عبد الرحمن بن صالح الحجي