الحمد لله الذي أسعد أولياءه بطاعته والانقياد لشرعه ، وشرح صدورهم بما عرفوا من الحقِّ واستقاموا عليه ، وأشقى أعداءه بمعصيته ومخالفة أمره ، وملأ صدورهم غيظاً وهماً وغماً وحزناً بما خالفوا الحقَّ و تمرَّدوا عليه .
وأشهد أن لا إله إلاَّ الله ، وحده لا شريك له ، كتب السعادة لمن أطاعه ، وقضى بالشقاء على من عصاه .
وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، نبيٌّ شرح الله له صدره ، ووضع عنه وزره ، ويسَّر له أمره ، ورفع في الدارين ذكره ، وجعل الذلَّة والصغار على من خالف أمره .
صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه ، ومن سار على نهجه ، واقتفى بأثره ، واهتدى بهداه ، وسلَّم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، أمَّا بعد :
وداعًا للأحزان !
فلا النفوس تطيقها ، ولا القلوب تحتملها ، وليس في العمر متَّسع لها .
وداعًا للأحزان !
ذهابٌ إلى غير رجعة ، وغياب لا إياب بعده ، فإنَّا لم نُخلق لنحزن ، ولم نوجد لنتألم ، ولم نُنشأ لنتوجع .
وداعًا للأحزان !
حملٌ ثقيلٌ ينقله المؤمن عن كاهله ، ليرمي به فوق كتف من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ، ليعذبه الله بالأحزان في الدنيا قبل حصول أشدِّ العقاب وأليم العذاب في يوم الحساب .
وداعًا للأحزان !
صرخةٌ نقذفها بقلوب مؤمنه ونفوسٍ مسلمة في وجه الأحزان الجاثمة والآلام القادمة ، لنقول لها : إليك عنَّا ..إليك عنَّا .. فلست لنا.. ولست مِنَّا .
وإليكَ ـ أيُّها الحبيب ـ منارات مضيئة وإشارات سريعة على شاطئ السعادة تنير مدارج السالكين إلى ربِّ العالمين .
فقف معها أيها المسافر لليوم الآخر ، وخذ منها متاعك ، وأنخ على عتبتها رحلك ، وتزود منها بما ينفعك ، فهي محطات الزاد ليوم المعاد ، وهي لك وحدك دون غيرك أيها المؤمن السعيد ، محرمة ـ غاية التحريم ! على كل كافر جاحد بليد .
فإليك بعض أسباب تحصيل السعادة ، وما تندفع الأحزان به ، فانتبه !
الحصن الحصين
الإيمان الصادق بالله تعالى الذي يخالط بشاشة القلب ، ويمازج حبَّة الفؤاد ، فبالإيمان تطيب الحياة ، ويهنأ العيش ، ويُسعد العمر ، وتزول الأحزان .
قال تعالى : { فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقاً حرجا كأنما يصَّعد في السماء .. } [1]
فالإيمان حصنٌ حصين ، ودرعٌ مكين ، يحمي من استجنَّ به من كلِّ شقاء ، ويدفع عنه كلَّ بلاء ، ويحيل الحياة إلى روضة رضا ، وواحة راحة ..
قال تعالى : { أفمن شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه ..}[2]
إنَّه الحياة الطيِّبة ، والعيشة الراضية المرضيَّة ، والعمر السعيد !
وقال سبحانه : { من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهـو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون } [3]
" قال بعض العارفين : إنَّه لتمرُّ بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً ، وقال آخر : إنه لتمرُّ بي أوقات أقول : إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيشٍ طيِّب " [4]
فأين نحن منهم ؟! وأين قلوبنا عنهم ؟!
تعلَّق بالرازق :
اليقين بأن الرزق من عند الله الرزاق ذي القوة المتين ، وأنَّ النَّاس لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرَّاً ، ولا قوتاً ولا رزقاً ، وعجزهم عن غيرهم من بابِ أولى ، فإنَّ أكثر ما يشقي الناس في دنياهم ويجلب لهم الأحزان ؛ طلبهم لرزقهم ، والبحث عن أقواتهم ، والخوف عليها من المخلوقين .
وقد تكفَّل الرزَّاقُ بأرزاق العباد، ووعدهم بها ، وحذَّرهم أن يطلبوها من غيره أو يسألوها من سواه ، فما النَّاس إلاَّ أسباب ، والمؤمن قلبه معلَّق بمسبب الأسباب فيما فات عليه وما أصاب .
قال تعالى : { وما من دابة في الأرض إلاَّ على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها } [5]
فيا أيها الأكَّال ! أيُّها المرزوق !
علِّق قلبك بالخالق ، ودع المخلوق ، فإن الرزق في السماء ، ليس في المتجر ، ولا في الوظيفة ، ولا في السُّوق !
قال تعالى : { وفي السماء رزقكم وما توعدون } [6]
وليكن لديك يقين ؛ أنَّ رزقك من ربِّ العالمين ، وأنَّ رزقك لن يأكله غيرك ، ولن تموت حتى تستكمله ، وأنَّك مهما عملت وبذلت فلن تحصل إلا على ما كتبه الله لك .
فلِمَ الوجل على شيءٍ قد كُتِبَ في الأزل ؟!
عن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الرزقَ ليطلبُ العبدَ أكثرَ ممَّا يطلبُهُ أجلهُ " [7]
وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت ن لأدركه رزقه كما يدركه الموت " [8]
مثلُ الرزق الذي تطلبهُ مثلُ الظل الذي يمشي معك
أنتَ لا تدركه متبعاً وإذا وليت عنه تبعك [9]
" قال بعض العلماء : لا يشغلك المضمون لك من الرزق عن المفروض عليك من العمل ، فتضيع أمر آخرتك ، ولا تنال من الدنيا إلاَّ ما قد كتب الله لك " [10]
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الله يقولُ يا ابنَ آدمَ : تفرَّغ لعبادتي أملأُ صدركَ غِنى وأسُدُّ فقرك ، وإن لا تفعَل ملأتُ يديك شُغلاً ، ولم أسُدَّ فقرَك " [11]
خوفٌ يبعث الأمن
الخوف من الله تعالى ، فبقدر خوفك من الخالق بقدر ما يخاف منك كلُّ مخلوق ، وبقدر ضعف خوفك من الله ـ تعالى ـ بقدر ما تخاف أنت من المخلوقين .
وكيف للخائف أن يكون من السعداء و قلبُّه يخفق ، وأوصاله ترتجف ، وفرائصه ترتعد ؟!
إنَّه ليحسب أنَّ كلَّ صيحة عليه ، وكلَّ إشارة إليه ، فتضيق عليه الدنيا بما رحبت ، وتضيق عليه نفسه التي بين جنبيه .
وحسبُ المؤمن ربَّه !
قال تعالى : { الذين قال لهم الناس إنَّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم . فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله } [12]
لُـذ إلى ركن شديد
التوكل على الله تعالى ، ثقةٌ به ، واعتمادٌ عليه ، وأخذٌ بالأسباب المشروعة لتحصيل المراد .
قال تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } [13] أي ؛ كافيه .
" قال لقمان لابنه : يا بني ! الدنيا بحر غرق فيه أناس كثير ، فإن استطعت أن تكون سفينتك فيها الإيمان بالله ، وحشوها العمل بطاعة الله عز وجل ، وشراعها التوكل على الله لعلك تنجو " [14]
وكم لصلاة الاستخارة من أثرٍ بالغ في جلب الراحة والطمأنينة لنفس المتحير المتردد الذي أفرغ حاجته عند باب ربِّه وفزع إليه ولجأ إلى خيرته الطيبة !
فإنَّ الله تعالى يعلم ما هو أصلح لعبده وأنجح لمعاشه ومعاده ، فإنه العليم الخبير ، والحكيم القدير ، والعبد عاجز فقير لا يحسن التدبير .
وأنَّى للمتشائم أن يكون سعيداً خالياً من الأحزان ، وهو يتطيَّر بالأشخاص ، والكلام ، والأيام ، والأعوام ، والألوان ، والحيوان ، والطير ، وغير ذلك ؟!
فهو في همٍّ دائم وشقاء ملازم ، لأنه يعيش التعاسة قبل حصولها ، ويتأثر بالأحداث قبل حدوثها ، ويهتمُّ بالوقائع قبل وقوعها ، عذابٌ قبل وقوع العذاب !
توكل على الرحمن في الأمر كله فما خاب حقاً من عليه توكلاً
وكن واثقاً بالله واصبر لحكمه تفز بالذي ترجوه منه تفضلاً
الرضا بالقضاء
الرضا بالقضا خيره وشره حلوه ومره ، وهو شجرة غناَّء يتفيؤ ظلالها من علم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم ليكن ليصيبه ، وأنَّه لن يحدث في كون الله إلاَّ ما علمه الله وشاءه ، ولن يقع على العبد إلاَّ ما قضى الله به عليه وقدَّره له .
قال تعالى : { وكان أمر الله قدراً مقدوراً }[15]
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : كنت خلف النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوماً ، فقال : " يا غُلامُ ، إنِّي أُعلمُك كلمات : احفظِ الله يحفظكَ ، احفظِ الله تجدهُ تُجاهكَ ، إذا سألتَ فاسأَلِ الله ، وإذا استعنتَ فاستعن بالله ، واعلم أنَّ الأُمَّةَ لو اجتمَعت على أن ينفَعُوكَ بشيء لم ينفعوكَ بشيء إلاَّ قد كتَبَهُ الله لكَ ، وإن اجتمعُوا على أن يضُرُّوك بشيء لم يضرُّوك إلاَّ بشيء قد كتَبهُ الله عليك ، رُفعتِ الأقلامُ وجفَّتِ الصُّحُفُ "[16]
فلا حسرة على فائت ، ولا حزن على مفقود ، ولا همَّ على مستقبل ، ولا تلاوم على ما حدث ، فالسلامة من الأحزان في التسليم للرحيم الرحمن ، والرضا بالحياة تبعٌ للرضا عن الله .
فوا حزناه على من لم يرضى عن خالقه ومولاه !
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" المؤمن القويُّ خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف ، وفي كلٍّ خيرٌ ، احرص على ما ينفعك ، واستعن بالله ، ولا تعجز ، وإن أصابك شيءٌ فلا تقل : لو أني فعلت كذا وكذا ، ولكن قُل : قَدَرُ الله وما شاء فعل ، فإن لو تفتح عمل الشيطان " [17]
قال تعالى : {ما أصاب من مُصيبةٍ في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إنَّ ذلك على الله يسير . لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور }[18]
لا تُطِلِ الحزن على فائتٍ فقلَّما يُجدي عليك الحزن
سيَّان محزون على فائتٍ ومُضمِر حزناً لما يَكُن