بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى: (قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون- أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون- تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُون). البقرة 139-141.

قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
ذكر بعض ما في هذه الآيات من بيان الحق وإبطال الباطل:
المسألة الأولى: إذا كانت المحاجة في الله سبحانه من أقرب ما يكون إليه من المختلفين في مسألة التوحيد، وبيان ذلك بمعرفة الله تعالى فيما اجتمعنا وإياكم عليه، ومعرفة حالنا وحالكم في المسألة.
وذلك أنا مجمعون على استوائنا وإياكم في العبودية، بخلاف ملوك الدنيا، فإن بعض الناس يكون أقرب إليهم من بعض بالقرابة وغيرها.
ونحن مجمعون أيضًا أنه لا يظلم أحدًا من عبيده، بل كل نفس (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ). بخلاف ملوك الدنيا فإنهم يأخذون مال هذا ويعطونه هذا.
فإذا كان الأمر كذلك فكيف تدعون أنكم أولى بالله منا، ونحن له مخلصون وأنتم به مشركون؟ وكيف يظن به أنه يساوي بين من قصده وحده لا شريك له، ومن قصد غيره وأعرض عنه؟ وهل يظن عاقل أو سفيه برجل من بني آدم خصوصا إذا كان كريما، أن من قصده وضاف عنده يكرهه ولا يضيفه، ويخص بالرضا والكرامة والضيافة من أعرض عنه وأضاف عند غيره، مع استواء الجميع في القرب منه والبعد; هذا لا يظن في الآدمي فكيف يظن برب العالمين، فتبين بقضية العقل أن ما جاءت به الرسل من الإخلاص هو الموافق للعقل، وما فعل المشركون هو العجاب المخالف للعقل، فيا لها من حجة ما أعظمها وأبينها، لكن لمن فهمها كما ينبغي.
المسألة الثانية: وأما قوله: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ). الآية، فهذه حجة أخرى، وبيانها أنا إذا أجمعنا على الإمام والأئمة؛ أنهم ومن اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فهذه أيضًا مثل التي قبلها. فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة بعدهم قد أجمعنا أنهم ومن اتبعهم على الحق، ومن خالفهم فهو على الباطل، فنقول: هذه المسألة التي اختلفنا وإياكم فيها هل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على قولنا أو على قولكم؟ فإذا أقروا أن دعاء أهل القبور والبناء عليها وجعل الأوقاف والسدنة عليها من دين الجاهلية، فلما بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك كله، وهدم البناء الذي جعلته الجاهلية على القبور، ونهى عن دعاء الصالحين وعن التعلق عليهم، وأمر بإخلاص الدعوة لله، وأمر بإخلاص الاستعانة لله; وبلغنا عن الله أنه يقول: (فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً).ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون وأتباعهم، والأئمة وأصحابهم على ذلك; ولم يحدث هذا إلا بعد ذلك، أعني دعاء غير الله والبناء على القبور، وما يتبع ذلك من المنكرات; فكيف تقرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة من بعدهم على ما نحن عليه، ثم تنكرونه أعظم من إنكار دين اليهود والنصارى مع إقراركم أنه الدين الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والأئمة؟ أم كيف تنصرون الشرك وما يتبعه، وتبذلون في نصره النفس والمال مع إقراركم أنه دين الجاهلية المشركين؟ هذا هو الشيء العجاب، لا جعل الآلهة إلهًا واحدًا، يا أعداء الله لو كنتم تعقلون!! وليس هذا في هذه المسألة وحدها، بل كل مسألة اختلفنا وإياهم فيها، وأقروا أن ما نحن عليه هو الذي عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه; فهذه الخصومة واقعة فيها فاصلة لها.
= فإن أقروا بذلك، ولكن زعموا أن الناس أحدثوا أمورًا تقتضي حسن ما هم عليه، كقولهم: هذه بدعة حسنة فيها من المصالح كذا وكذا; وفي تركها من المفاسد كذا وكذا، فيجاوبون بالمسألة الثالثة:
المسألة الثالثة: وهي قوله: (قل أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ). فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقراركم أوصانا بقوله: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة). رواه أحمد، والدارمي. فقد أقررتم أنه أمر بلزوم ما أمرتم بتركه، وأنه نهى عما أمرتم بفعله; مع إقراركم أنه أوصى بهذه الوصية عند وقوع الاختلاف في أمته، مع إقراركم أنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فالله سبحانه قد علم ما يحدث في خلقه إلى يوم القيامة، ومع هذا أمر بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم الذي أقررتم به وأنتم تشهدون أنه قاله.
فإذا بان لك أن الأولى في الأمر بالإخلاص والنهي عن الشرك، وأن الثانية في الأمر بلزوم السنة والنهي عن البدعة، بان لك أن هذا هو تقرير القاعدتين اللتين عليهما مدار الدين، وهما: لا يعبد إلا الله، والثانية: لا يعبد إلا بما شرع.
فالأولى: قوله: (إنما الأعمال بالنيات). متفق عليه.
والثانية قوله: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا؛ فهو رد). متفق عليه.
= فإن كان المحاج لا يقر ببعض ذلك، بل أنكر شيئًا من تفاصيل ما ذكرنا، فهي المسألة الرابعة:
المسألة الرابعة: وهي قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ). فإن كان هذا في الكاتم مع المحبة وتمني ظهوره، ولكن أحب الدنيا عليه، فكيف بالكاتم المبغض؟
فإن كان يدعي أنه لم يفعل ذلك، وأنه تابع لهذا الحق لكنه يكتم إيمانه كمؤمن آل فرعون مع معرفتك أنه كاذب، فهي المسألة الخامسة:
المسألة الخامسة: وهي أن تقول له: (وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).
فإن أقر بهذا كله، ولكنه استروح إلى أنه من ذرية رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أنهم جيرانه أو غير ذلك من الأسباب، مثل مدحه الإمام الذي ينتسب إليه، أو أصحابه، فهي المسألة السادسة:
المسألة السادسة: وهي قوله: (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ).