بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حقوق الأخوة في الله تعالى

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً*يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)). أما بعد :

فإن الله سبحانه وتعالى ذكر في كتابه المهاجرين والأنصار، ثم أثنى على طائفة من المؤمنين بقوله: ((وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ)) .

معاشر المؤمنين : إن للتشاحن والتباغض أسبابا كثيرة تعكر صفاء القلوب وتملؤها حقدا وغلا، على المسلم أن يحذرها ليسلم قلبه وتزكو نفسه، ومن هذه الأسباب الجالبة للشحناء والبغضاء:

أولاً : إغواء الشيطان كما قال ربنا سبحانه وتعالى: ((وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً)) ، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن في التحريش بينهم) خرجه الإمام مسلم.

فتأمل فيمن ظلمته من إخوانك وتعديت على ماله أو عرضه أو بدنه، من الذي أغواك وغرك حتى عاديت أخاك المسلم الذي أوجب الله محبته وموالاته؟ إنه الشيطان الرجيم أعاذك الله من نزغاته وتحريشه.

ثانياً : البدعة، وذلك أن صاحب البدعة ينتصر لبدعته، والسنة لا بد لها من طائفة تبينها وتنتصر لها، وبذلك تنقسم الأمة شيعا وأحزابا بسبب البدع وأهلها، قال أبو العالية رحمه الله وغفر له: "عليكم بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، والذي كان عليه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، قال صاحب الإبانة وهو من أئمة أهل السنة: "إن أهل البدع خرجوا من اجتماع إلى شتات، وعن نظام إلى تفرق، وعن أنس إلى وحشة، وعن ائتلاف إلى اختلاف، وعن محبة إلى بغض، وعن نصيحة وموالاة إلى غش ومعاداة، عصمنا الله وإياكم من الانتماء إلى كل اسم خالف الإسلام والسنة" انتهى كلامه.

ثالثاً : من الأسباب الجالبة للشحناء والبغضاء: الغضب، فإنه مدخل عظيم من مداخل الشيطان، قال ابن رجب رحمه الله: "مدح الله من يغفر عند غضبه فقال ((وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)) لأنّ الغضب يحمل صاحبه أن يقول غير الحق ويفعل غير العدل، وعند ذلك تتنافر القلوب وتقع الشّحناء بين أهل الإسلام".

رابعاً : من أسباب وجود البغضاء والتشاحن بين المؤمنين النميمة، فوالله كم مزقت من محبة، وكم فرقت من قرابة، وكم أوقدت من فتنة، فأغرت القلوب غيرت الصدور، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) أي: نمام، والنميمة: نقل الكلام بغرض الإفساد، وأما الشهادة عل الباغي ببغيه عند الحاجة فهي من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (انصر أخاك ظالما أو مظلوما).

خامساً : الحسد، لأن الحاسد يكره أولا فضل الله على غيره، ثم ينتقل إلى بغض ذلك المُنْعَم عليه، وأقبح أنواع الحسد ما يكون بين المنتسبين إلى العلم والدعوة، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وقد يبتلى بعض المنتسبين إلى العلم وغيرهم بنوع من الحسد، لمن هداه الله لعلم نافع أو عمل صالح، وهو خلق مذموم مطلقا، وهو في هذا الموضع من أخلاق المغضوب عليهم" انتهى كلامه رحمه الله. وليس من الحسد الرد على المخالف لمنهج السلف، بل هو من النصيحة وحب الخير للمنصوح وأتباعه. وأما الحسد بين الأصحاب في عمل أو تجارة وبين الأقارب فحدث ولا حرج، نتج عنه الغيبة والحقد والطعن. ومن القبائح إظهار الحسد في صورة النصيحة، فإن هذا حسد ومكر نسأل الله السلامة والعافية.

سادساً : من أسباب الشحناء والبغضاء بين المؤمنين: المراء والجدال والخصام، قال الإمام الآجري رحمه الله وغفر له: "وعند الحكماء أن المراء أكثره يغير قلوب الإخوان، ويورث الفرقة بعد الألفة، والوحشة بعد الأنس"، وقال الإمام مالك رحمه الله: "المراء يقسي القلوب ويورث الضغائن"، وقال بعض السلف: "إذا أراد الله بعبد خيرا فتح له باب العمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد الله بعبد شرا أغلق عنه باب العمل وفتح له باب الجدل"، ولما سمع الحسن قوما يتجادلون قال: "هؤلاء ملوا العبادة وخف عليهم القول وقَلّ ورعهم فتكلموا"، وأما المجادلة بالحسنى لإظهار الحق والسنة، فهي مما أمر الله به في قوله: ((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)) .

سابعاً : من أسباب الشحناء والبغضاء بين المؤمنين: اتباع الهوى، فإن اتباع الهوى مظِنّة الظلم والبغي، قال ربنا جل وعلا: ((فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ)) ، قال الإمام ابن رجب غفر الله له: "لما كثر اختلاف الناس في مسائل الدين وكثر تفرقهم كثر بسبب ذلك تباغضهم وتلاعنهم، وكل منهم يظهر أنه يبغض لله، وقد يكون في نفس الأمر معذورا وقد لا يكون معذورا، بل يكون متبعا لهواه مقصرا في البحث عن معرفة ما يبغض عليه" انتهى كلامه.

ثامناً : من أسباب الشحناء والبغضاء : البغي عند الاختلاف في المسائل التي يجوز الخلاف فيها، فإن السلف رضي الله عنهم وأرضاهم لم يكن يداخل قلوبهم شيء من الغل أو البغض لأحد من إخوانهم، بمجرد مخالفته لهم، كان الإمام أحمد يذكر إسحاق بن راهويه فيمدحه ويثني عليه ويقول: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثل إسحاق، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن الناس لم يزل يخالف بعضهم بعضا".

تاسعاً : التعصب لغير الحق، سواء كان هذا التعصب لمذهب أو قبيلة أو حزب أو جماعة من الجماعات أو شخص أو غير ذلك، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن نصب شخصا كائنا من كان فوالى وعادى على موافقته في القول والفعل فهو ((مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً)) ، وليس لأحد أن يدعو إلى مقالة أو يعتقدها لكونها قول أصحابه، بل لأنها مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم" انتهى كلامه. ولما سؤل العلامة ابن عثيمين رحمه الله وغفر له عن هذه الجماعات الإسلامية الموجودة في الساحة هل في النصوص ما يدل على جواز تعددها؟ أجاب بقوله: "بل في النصوص ما يدل على منعها قال ربنا جل وعلا: ((وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ)).

عاشراً : من أسباب الشحناء والبغضاء بين المؤمنين: ظن السوء بالمسلم، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث). ولا تصدر الظنون السيئة إلا من قلوب لا تخلوا من السيئات، فتطلب لغيرها العثرات، ولذا على المسلم أن يحسن الظن بإخوانه كما يحب هو أن يكون ظنهم به حسنا.

الحادي عشر: التنافس على الدنيا والرياسة والجاه، فكم نتج عن ذلك من تحاسد وضغينة وبغضاء، قال الإمام الشافعي رحمه الله في الدنيا :

وماهي الا جيفة مستحيلة ** عليها كلاب همهن اجتذابها

فإن تجتنبها كنت سلما لأهلها ** وإن تجتذبها نازعتك كلابها.

ومن علامة حب الجاه والرياسة : كراهة الرجل تصدر غيره في الخير والسنة والعلم وانطلاق الألسنة بالثناء عليه، وفي هذا مشابهة لليهود الذين ذمهم الله عز وجل بقوله: ((أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ)) فاللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، وسلم صدورنا لإخواننا المؤمنين، وطهرها من الغل يا رحيم يا كريم.

الثاني عشر : اختلاف الصفوف في الصلاة، فعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم)، قال العلامة النووي: "والأظهر أن معناه: يوقع بينكم العداوة والبغضاء واختلاف القلوب، كما يقال: تغير وجه فلان عليّ، أي: ظهر لي من وجهه كراهة لي".

الثالث عشر : النجوى بين المؤمنين، وذلك أن المناجاة بين اثنين دون الثالث تفتح الباب للشيطان، وتبث في القلب الحزن والتوجس، ((إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا)).

الرابع عشر: كثرة المزاح، فإن الشيء إذا تجاوز حده انقلب إلى ضده، قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: "إياكم والمزاح فإنه يورث الضغينة، ويجر إلى القبيح"، وقيل: "لكل شيء بذور، وبذور العداوة المزاح".

من أسباب الشحناء والبغضاء: المعصية، فما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، قال بعض السلف: "إني لأعصي الله فأرى ذلك في خلق دابتي وامرأتي".

ومنها : أهل النفاق، الذين يندسون بين صفوف المؤمنين لإيقاع العداوة والبغضاء، لأنه يحزنهم أن ترجع هذه الأمة إلى دينها، وتجتمع على مذهب سلفها الصالح، وهم كما قال ربنا سبحانه وتعالى: ((لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ)) . يلبسون مسوح الضأن على قلوب الذئاب، يظهرون التدين والنصح للأمة وهم أعدى أعدائها، ((وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ)).

ألا وإن ما يجري هذه الأيام من طعن أهل الكفر والنفاق والايتداع والمنخدعين بهم في دعوة التوحيد والتجديد التي قام بها الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب والتي قامت عليها بلادنا المملكة العربية السعودية وانتشر وعمَّ خيرها العالم الإسلامي .. لشاهد على ذلك، لأنهم يعلمون أن عقيدتها السنية ومنهجها السلفي هو الحق الذي اجتمع عليه السابقون الأولون، فنصرهم الله وأيدهم، فأراد هؤلاء صرف شباب الأمة عن نهج سلفها، ليتخبطوا في أهواء الفرق والآراء والجماعات المحدثة البدعية، وليكونوا صيداً سهلاً لهم .. ولكن الله حافظ دينه وأهله، وناصرهم ومؤيدهم، (يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون) .

فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام اللهم غفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب ..