(مراحل الحكم على المعين)
أولاً: الأسماء والأحكام الظاهرة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أولاً: إذا وقع العبد في شركٍ أو بدعة أو كبيرة وأراد المسلمون وصفه بالوصف المناسب له؛ إنكاراً عليه وحفظاً للدين فإن ذلك تتنازعه أشياء عديدة؛ فمن جهة:حفظ حق الله وحق الدين والنصيحة للمسلمين، وإنكار المنكر والغيرة لله، ومن جهة: حظ النفس وإرادة الدنيا وحظ الشيطان والعُجب وغير ذلك. فيجب عليه أولاً أن يخلّص نيته لله، وأن يصيب السنة؛حتى يؤجر ولا يؤزر،وليعلم أنه محاسب على كل ما يلفظه، مسئول عنه أمام الله، ولا يقبل الله البغي ولو على مشرك أو مبتدع، كما أنه لا يحب العجز؛ فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف. فهذه العقبة الأولى.

فإذا تجاوز تلك العقبة فإنه تتطاير أمامه أحكام كثيرة مختلطة مثل: (مشرك، كافر، مبتدع، فاسق، عاصي، زاني، منافق، آثم، طاغوت، مخطئ،زنديق،ملعون) فأول الطريق أن يعلم أن هذه الأحكام ليست في مسار واحد؛بل إنها تجري في مسارين متوازيين، وليس بالضرورة أن يكون بينهما ارتباط، فلابد من الفرز والتبيّن. وهذان المساران هما:

الأول: الأحكام الظاهرة مثل: (مشرك، مبتدع، مخطئ، زاني،مرابي،كاذب، طاغوت،ساحر) وأمثالها.

الثاني: الأحكام الباطنة مثل: (كافر، فاسق، عاصي، آثم، ملعون،زنديق).

ويقابل ذلك اسم (مسلم) فهذا ظاهر وعليه تبنى الأحكام،واسم (مؤمن) باطن نهينا عن الجزم به كما في أحاديث كثيرة ،قال تعالى ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا).

واسم (منافق) إن أريد به النفاق العملي فهو من الأحكام الظاهرة،كما قال عبد الله بن عمرو رضي الله عنه: (أربع من كن فيه فلا تخف أن تقول له منافق، إذا حدث كذب...) رواه الفريابي في صفة النفاق. وإن أريد باسم (منافق) النفاق الأكبر فهو من الأحكام الباطنة،

ومما يؤيد التباين بين الاسم والحكم الظاهر والباطن حديث ( إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فمن قضيت له بحق أخيه فإنما هي قطعة من النار فليأخذ أو ليدع).

وسنؤجل الكلام عن الأسماء والأحكام الباطنة لمقالٍ قادم –بإذن الله- ونتكلم الآن عن الأسماء والأحكام الظاهرة.

ثانيًا: الأحكام الظاهرة هي ربط الاسم والحكم الدنيوي بالفعل الظاهر بغض النظر عن عذر الفاعل أو تأثيمه بدرجات الإثم الثلاث المذكورة في قوله تعالى: (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُون)فالحكم على ظاهره لا يعني أنه معذور أو غير معذور ولا يعني تأثيمه مباشرة فضلاً عن تكفيره، فكل واحد من صنفي الأحكام الظاهرة والباطنة له إجراءات مستقلة وأدوات خاصة.

وإن وجدت أحكام ظاهرة وباطنة بينها ارتباط مباشر فهذا لأمرٍ يخصها؛ فمثلاً إطلاق اسم (مشرك) إن أريد به الشرك الأكبر - وهو من جعل لله ندًا - فهو يعني تلقائياً أنه (كافر) فالحكم الظاهر يستدعي الباطن؛لأن قبح الشرك لا يتوقف على السمع فلا تتصور فيه الأعذار- ما عدا الإكراه في بعض الصور وبضوابطه-، ولأن الشرك الأكبر ظاهر الدلالة على الكفر بشكل قطعي وذلك خلافاً للمرجئة. ومن هنا خلط بعض المتأخرين فحكموا على عباد القبور بأنهم يستحقون الاسم الظاهر قبل قيام الحجة وهو لقب (مشرك) –كباقي علماء الملة بالاتفاق-؛ ثم قالوا إنهم لا يستحقون الحكم الباطن مباشرة وهو اسم (كافر) لأجل أعذار الجهل أو التأويل أو التقليد أو الشبهات؛ وهذا خطأ شنيع.كذلك لقب (ساحر) من السلف من قال(كل ساحر كافر)،وامتنع الشافعي فقال هو(ساحر)، ويتوقف تكفيره على نوع سحره.

فالمراد بالحكم الظاهر ربط الاسم بالفعل مباشرة؛فمن زنا ولو مرة واحدة سُمي (زانيا)،ومن ابتدع ولو مرة واحدة -كما لو أوّل صفة واحدة- سُمي (مبتدعا)،ومن كذب ولو مرة واحدة سُمي (كاذبا)،ومن تجاوز حده من معبود أو متبوع أو مطاع سُمي (طاغوتا)،ومن حلف بغير الله سُمي (مشركا) ولا تعني هنا اسم (كافر) مباشرة بل تلك مسألة أخرى؛لأن هذا شرك أصغر في الأصل، ولعل هذا السبب في قوله في الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) بينما قال في ترك الصلاة: (بين الرجل والكفر والشرك:ترك الصلاة) وعلى عدم الربط بين الحكم الظاهر والباطن الناس من أول الدهر إلى وقتنا هذا؛ قال الشيخ صالح الفوزان: (ليس لأحد أن يحكم على شيء بأنه بدعة أو سنة حتى يعرضه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم،فإن فعل عن جهل وظن أنه حق ولم يبين له فهذا معذور بالجهل، لكن في واقع أمره يكون مبتدعا، ونعامله معاملة المبتدع، ونعتبر أن عمله هذا بدعة). اهـ المنتقى 1/404.

ثالثًا: من وقع في بدعة أو شرك أو معصية فإنه يستحق الاسم من مرة واحدة ولا يتوقف الاسم على التكرار؛ والدليل قوله تعالى: (لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) من مرة واحدة. وقوله (وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ) من مرة واحدة. وقوله تعالى (لاَ تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ) نزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ قال ابن أبي مليكة: (كاد الخيّران أن يهلكا) من مرة واحدة، وحديث: (إن الرجل ليقول الكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار سبعين خريفاً) من مرة واحدة، وأول حديث في صحيح مسلم لما أُخبر ابن عمر رضي الله عنهما ببدعة في العراق تبرأ منهم من مرة واحدة. وهذا صنيع السلف رحمهم الله، ولنذكر بعض الأمثلة بين المنتسبين للحديث والسنة:

1- أبو ثور من أهل الحديث بدّعه أحمد من مسألة واحدة؛ وهي تأويل صفة الصورة لله.

2- الكرابيسي من أهل الحديث بدّعه أحمد من مسألة واحدة وهي (اللفظية).

3- داود الظاهري من أهل الحديث بدّعه أحمد من مسألة واحدة وهي (كلمة:القرآن محدث).

4- الحسن بن صالح بن حي من أهل الحديث والعبادة بدّعه السلف قاطبة من مسألة واحدة وهي (ترك الجمعة خلف المبتدع والفاسق ثم آل به الأمر إلى السيف).

5- إسماعيل بن عُليّة من أهل الحديث بدّعه السلف من مسألة واحدة وهي في: (القرآن).

وبعض هذه الأشياء لاتثبت على أهلها،وبعضها ثبت رجوعهم،فالمراد بيان الجادة التي كانوا عليها.

رابعًا: إطلاق وصف (مبتدع) أو (مشرك) أو (زاني) على شخص هو من باب العقوبات الدنيوية المحضة التي لابد منها؛لرفع الفساد أو دفعه، ولدفع الصائل على الدين والله تعالى يقول (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم ) وأن نظلم في ديننا فذلك أعظم الظلم المبيح للجهر بالسوء من القول،وهذه من الخصائص الرائعة لهذه الأمة المرحومة التي أخرجت للناس تأمر فيما بينها بالمعروف وتنهى عن المنكر،وهي من جنس قوله تعالى (ولكن ليبلوا بعضكم ببعض). وكون هذه العقوبات الدنيوية لا تعني مباشرة الإثم عند الله بدرجاته الثلاث راجع إلى أن دار الجزاء الحقيقي هي الآخرة،وإنما العقوبات في الدنيا بأنواعها هي لغرض إصلاح البلاد والعباد،والردع وحفظ الدين، وهاهنا أمثلة لإطلاق أسماء وإيقاع أحكام على أناس قد لا يأثمون بل بعضهم يؤجرون:

1- إبراهيم عليه السلام امتنع من الشفاعة واستحيا من الله؛لأجل كذباته الثلاث مع أنها في ذات الله وهو فيها مأجور،لكنه سماها (كذبات)على الظاهر،وامتناعه وحياؤه يتناسب مع مقامه العالي.

2- ماعز والغامدية أقيم عليهما الحد مع أنهما تابا قبله توبة لو قسمت على أهل المدينة لوسعتهم.

3- لما شرب قدامة بن مظعون وأصحابه الخمر بتأويل القرآن جلدهم عمر رضي الله عنه.

4- من شهد على أحد بالزنا ولم يكتمل نصاب الشهادة يجلد الشهود حد القذف ولو كانوا صادقين.

5- البغاة المتأولين نقاتلهم ولو كانوا مجتهدين،فإذا انتهت الفتنة أسقطنا المطالبة بالدماء والأموال؛لأجل التأويل،كما حكى الزهري إجماع الصحابة على ذلك إلا ما وجد بعينه.

6- من تاب قبل القدرة عليه من قطاع الطرق توبة صادقة، تقام عليه الحدود المتعلقة بالمخلوقين. والأمثلة على ذلك كثيرة للغاية.

خامسًا: يستحق اسم (الزاني) من عمل الزنا،ويستحق اسم (المشرك) من وقع في الشرك، ويستحق (الطاغوت) من تجاوز حده كمن سنّ القوانين الوضعية وألزم بها،ويستحق اسم (المخطئ) من أخطأ الجادة وهكذا. واسم (المبتدع) يستحقه من وقع في أحد أمرين هما:

1-أن يقول بنفسه أو يعمل أو يعتقد بدعة ظاهرة، ليست من المسائل الخفية المستشنعة التي أدلتها قد تخفى أو تلتبس- وسيأتي أمرها-،ويستعان على ضبط البدع الظاهرة بقول عبدالله بن المبارك رحمه الله: (أصول البدع أربع: المرجئة،والخوارج،والشيعة،والمعتزلة القدرية؛ ومنها تفرعت الثنتان وسبعون فرقة) وقد تتزاوج هذه البدع فيما بينها،ونقل مثل ذلك عن يوسف بن أسباط.

2- أن ينتسب لفرقة من فرق الضلالة ولو لم يوافقهم في كل أصولهم،مثل فرق (التبليغ، والإخوان، والأحباش، وتنظيم القاعدة،والمرجئة، والأشاعرة) ونحو ذلك.

فالمبتدع هو من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه، أو عمل عملاً ليس عليه أمرنا.

والمبتدع هو من شرع أمراً في الدين لم يأذن به الله،أو عمله بنفسه.

والمبتدع هو من خالف الكتاب المنزل والسنة الواضحة،وشاق الرسول صلى الله عليه وسلم واتبع غير سبيل المؤمنين.

- وتمكن معرفة المبتدع بأحد طريقين هما:

1- أن تتأكد من ذلك بنفسك بتثبت وعلم.

2- أن يخبرك بحاله رجل ثقة متثبت من أهل السنة،خاصة إذا كان من أهل بلده أو قرابته،وإنما قلنا بالطريق الثاني؛سدًا لتمويه المبتدعة ونفاقهم وتلونهم، فنقبل كلام السني التقي فيه ولا نقبل كلامه في نفسه، وقد كذب غيلان القدري على عمر بن عبدالعزيز رحمه الله وزعم أنه لم يقل بما نسب إليه، ثم ادعى الرجوع،فدعا عليه عمر إن كان كاذباً،فصلب بعد ذلك،وكذب داود بن علي على الإمام أحمد لكن الإمام أحمد صدق محمد بن يحيى النيسابوري وهو ثقة من أهل بلد داود،ولم يصدق داود مع أنه أتى بنفسه لبيت الإمام أحمد ونفى التهمة.

سادساً: المبتدعة على ثلاث طبقات كل واحدة عقوبتها أشد من سابقتها وهي:

الطبقة الأولى: من عُرف بالبدعة أو اعتقدها أو عملها،أو عُرف بانتسابه لفرقة ضلالة، واقتصر شره على نفسه،فلم ينشرها بلسانه ولم يدع إليها صراحاً،وإن كان حاله يدعو لها، فهذا (فاسد غير مفسد) وعقوبته ما يلي:

1- إطلاق وصف (المبتدع) عليه؛ردعاً وإنكاراً،مع الانتباه لضوابط إنكار المنكر.

2- قال رافع بن أشرس (عقوبة الكذاب ألايقبل صدقه،وعقوبة المبتدع ألا تذكر محاسنه).

3- يذهب عنه اسم السني بإطلاق ، كالفاسق يذهب عنه اسم الإيمان المطلق بفعله للكبيرة.

4- يُحْذر وخاصة في أمر الدين.

5- تُحذر إخوانك وذريتك من جَرَبه وعدواه.

وتكفي هذا العقوبة مقابل شره،فلا يمنع السلام والكلام ولا أخذ رواية الحديث عنه دون رأيه، ويعامل كما تعامل الصحابة مع عوام المنافقين بالمدينة،قال تعالى: (أُولَـئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا)فتأمل كيف جمع بين الإعراض والوعظ لتعلم درجة الهجر، وكان كثير من رواة الحديث من هذا الصنف؛فالبصريون قدرية،والكوفيون شيعة ومرجئة،وأخذ الأئمة الحديث عنهم فيما لا يوافق بدعتهم،وحذروهم على أنفسهم،ومثلهم الآن من تربى على أيدي الفرق الضالة في الجامعات والمساجد والمدارس ممن لم ينشر الشر وإن كان مبلياً به،فنعامله بأدنى حدود المعاملة دون مخالطة ودون هجر تام كما في المثل (لا طلاق ولا حبال وثيقة) مع مداومة الوعظ والقول البليغ. قال أبو داود صاحب السنن للإمام أحمد: لنا أقارب بخراسان يرون الإرجاء فنكتب إلى خراسان نقرئهم السلام؟ قال أحمد: سبحان الله!!لِمَ لا تقرئهم السلام؟قلت:فنكلمهم؟! قال: نعم إلا أن يكون داعياً يخاصم فيه. (مسائل أبي داود 1785). وعلى هذا كل أجوبة أحمد وغيره من السلف بل وطريقتهم في طلب الحديث. وهذا الهجر الجزئي وتعليق العلاقة معه بين الصرم والوصل تجعله يعيش الصراع، ولما لم يكن هذا من المفسدين فقد ينفعه ذلك أكثر من الصرم التام، وهذا يشبه الهجر الجزئي للزوجات الناشزات في المضاجع؛ فعذابه وصراعه أشد من القطيعة ولذلك شرعه الحكيم الخبير.

الطبقة الثانية: من كان من الطبقة الأولى وأضاف إلى ذلك:الدعوة لبدعته أو الاجتهاد في نشرها،أو المخاصمة عليها،أوالتعصب والولاء والبراء فيها،أو الحب والبغض لأهلها،أونشر البدعة بماله،أو الغضب لأهلها والتنمر دونهم،فهذا يعاقب بالعقوبات السابقة ويزاد عليها ما يلي:

1- منع السلام والكلام معه.

2- لا يصلى خلفه.

3- الهجر التام في أعلى درجاته، وشدة التحذير منه لعامة المسلمين علانية؛لحديث (كل أمتي معافى إلا المجاهرون)

4- لا يصلي عليه أهل الفضل إذا مات.

5- لا يؤخذ عنه الحديث. قال إسحاق الكوسج لأحمد:لا يؤخذ عن المرجئ إذا كان داعياً؟! قال أحمد:إي والله ويقصى ويجفى. وكل أجوبته هكذا عندما يسأل عن الصلاة خلفه ورواية الحديث عنه والسلام عليه.وقال مالك:أربعة لا يؤخذ عنهم العلم:الأول: مبتدع يدعو إلى هواه..، قال تعالى في الخائضين:(فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ).أي حتى يتركوا بدعتهم.

والتفريق بين المفسدين وغيرهم تدل عليه كل محكمات القرآن والسنة قال تعالى ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذاباً فوق العذاب بما كانوا يفسدون) والآيات التي فيها الجمع بين الكفر والصد عن سبيل الله وترتيب عقوبات أشد على ذلك كثيرة جداً، كما أن أحكام الصالح وجزاؤه غير أحكام المصلح. فإن قيل: فما وجه فعل بعض الصحابة كابن مغفل لما هجر في تكرار الخذف،وابن عمر لما هجر ابنه في مسألة خروج النساء للمساجد ونحوهم،فالجواب: أن الأول عاند واستهتر بعد النصيحة، والثاني استقبل النص برأيه وهواه ظلماً فمن كان كذلك فهو مستحق للهجر ولو في معصية.

الطبقة الثالثة: إذا كان رأساً في الضلالة زعيماً في البدعة أستاذاً في الشر،فهذا يعاقب بعقوبات الطبقتين السابقتين،ويزاد على ذلك ما يلي:

1- الدعاء عليه باللعنة؛كما لعن مالك عمرو بن عبيد، ولعن أحمد بعض الرؤوس مع أنه قال لابنه صالح: هل يحب يزيد بن معاوية من يؤمن بالله فقال: يا أبت لم لا تلعنه؟ قال: يا بني! متى رأيت أباك لعاناً. وقيل لابن المبارك في تغليظه على رجل فقال:ألم تره رأساً.

2- إفتاء الإمام بقتله؛كما أفتى العلماء أئمة المسلمين قديماً وحديثاً بقتل رؤوس الضلالة. قال الله تعالى (وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُون) وتأمل آخر الآية وأن القصد من عقوبات الدنيا أن ينتهي المفسد وأمثاله إلى يوم القيامة.فإن لم يكن القتل فحبسه كما أفتى به أحمد في مسائل ابنه

سابعاً: من لم يقع بنفسه في بدعة ولا انتسب لفرقة ضالة لكنه يواليهم،فهذا لا يحكم عليه بأنه (مبتدع) إلا إذا تأكدنا أنه معهم في الباطن وأنه منافق فاجر،وهذا يحتاج إلى تثبت وتبيّن،كتثبتنا في مسألة(تكفير متولي الكفار ممن لم يفعل الكفر بنفسه)،ولكن عدم إطلاق الاسم لا يعني رفع العقوبات السابقة عنه بل يؤدب بما يناسبه،وكلام أحمد الشديد في الواقفة واللفظية سببه أنه علم أنهم جهمية في الباطن منافقون.

وقول السلف في المداهن للمبتدعة (ألحقه بهم) فهذا إلحاق في بعض الأحكام لا في كلها، وإنما أرادوا بذلك الردع والزجر وحفظ الدين،لا التسرع في الحكم على كل من تعامل مع المبتدعة بعجز لا فجور، فهذا دين يحفظ فيه حق الخالق وحق المخلوق.

وهؤلاء المتهاونين معهم ليسوا سواء فمنهم من لا يمدح المبتدع ولا يذمه،ويمشي بالتقيّة المباحة عند الحاجة وهي (السكوت عن الحق لا قول الباطل) وقد قال أبو هريرة رضي الله عنه: (سيأتي زمان يمشي فيه المؤمن بالتقيّة) بالمعنى السابق. ومنهم من مدحهم وعظّمهم وسماهم أئمة مع علمه ببدعهم،فهذا قد أتى أمراً عظيماً وغشاً للإسلام وأهله،والله قد كتب على نفسه أن الظالم لا يكون إماماً قط، فقال (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِين).

ومع البعد عن الآثار ونور النبوة، وما حل محلها من الثقة بالمتأخرين المعظمين وشدة الاعتماد عليهم يحصل مثل ذلك ،وصاحبه على خطر عظيم،كما قال السلف: ما قلَّت الآثار في قوم إلا ظهرت فيهم الأهواء.

ثامنًا: المسائل الخفية هي:مسائل مستشنعة ليست مما يسوغ فيه الاجتهاد مما لا ينكر على صاحبها وليست بدعاً ظاهرة،لكن وقع فيها التباس بسبب خفاء الأدلة أو تعارضها،وقائلها ممن يتصور أن تخفى عليه أو تلتبس عليه؛فينظر فيها لذات المسألة وللقائل وللزمان والمكان والظرف.فهي شنيعة عند العلماء والأمة خفية عند صاحبها، فهذه المسائل لا يكاد يسلم منها إلا من سلمه الله،وهي التي سماها معاذ رضي الله عنه (زيغة الحكيم) وعلّمنا كيف نتعامل معها ومع صاحبها-في الأثر المشهور-والله يغفر للمؤمنين؛وسببها:ضعف البشر،وحظ الشيطان من ابن آدم عندما قال(لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً) فتأتي لحظة يوكل العبد فيها إلى نفسه بذنوبه فيزل،ولكن إن كان فيه خير فإنه سيرجع كما قال معاذ،قال تعالى (إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) وما أعظم هذه الآية لمن تدبرها.ولذلك فتأمل هذه المسائل كماً وكيفاً وربطها بقائليها يدلك على درجة حظ الشيطان من العبد،والله قد قال عن أهل أُحُد (إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا) والراد اليوم سيكون غداً مردوداً عليه وهكذا؛(ليبلوا بعضكم ببعض) قال مالك:"ما منا إلا راد ومردود عليه". وكلما ابتعد الناس عن الوحي زادت شناعة المسائل كماً وكيفاً ، وعقوبة هذه المسائل ما يلي:

تحذير أهل العلم من تلك المسائل بعينها، ودفنها وعدم نشرها وإشاعتها فإن من الناس من إذا علم بالشواذ استهوته وفتنته، والإنكار عليها دون قائلها،فإن كثرت عند الشخص وتوالت؛ حُذر منه وحُذّر منه،وسمي (مخلّطاً) أو (مضطرباً)أو (صاحب شواذ)،كما هي القاعدة في أوهام الرواة المحدثين إن كانت قليلة كأوهام الزهري ضبطت وحُذِرت،وإن كثرت من الراوي وتواترت حذرت روايته بالكلية وعُلم أن عنده مشكلة في الذاكرة أو في كتابه،لكنه لا يسمى (كذاباً) أو (وضاعاً)،كذلك هنا إذا كثرت هذه المسائل من العالم عرفنا أن عنده مشكلة في فهمه أو في مصدر تلقيه من المتأخرين،لكنه لا يسمى (مبتدعا)،وتُرد الجهالات إلى السنة-كما قال عمر رضي الله عنه- وقال الفاروق أيضاً(يهدم الإسلام رجل عهد الناس عنده علماً فزل فاتُبع،ومنافق عليم،وأئمة مضلون)

ففرق بين البدع وأهلها والنفاق وأهله والزلات وأهلها، ومن أمثلة ذلك:

1- إفتاء ابن عباس رضي الله عنهما بالصرف ومتعة النساء المحرمتين وعمل بعض أصحابه بذلك بعد موته.وقد أنكر الصحابة عليه ولم يتركوه حتى رجع عن ذلك.

2- شرب قدامة بن مظعون رضي الله عنه الخمر بتأويل مخطئ للقرآن. ورد عمر وعلي رضي الله عنهما عليه،مع أنه بدري.

3- إنكار أبي ذر رضي الله عنه لإمساك أي مال زاد عن الحاجة ولو أديت زكاته وأخرج حق الله فيه،وإنكار عثمان رضي الله عنه عليه.

4- إنكار عائشة رضي الله عنها سماع قتلى بدر كلام النبي صلى الله عليه وسلم بتأويل القرآن.

5- إفتاء بعض أهل المدينة بالغناء وأدبار النساء.

6- مذهب سفيان الثوري رحمه الله وأكابر أهل الكوفة في استحلال النبيذ المحرم بتأويل وشبهة قال مالك رحمه الله: (ما قدم علينا مشرقي يشبه سفيان،وقد فارقني على أن لا يشرب النبيذ) مسند ابن الجعد (1879). فدل على أنها مما ينكر على صاحبها.

6- تأويل مالك رحمه الله لحديث خيار المجلس مع أنه راويه،وابن عمر قد بينّ معناه بفعله؛ولذا أنكر العلماء عليه،وقال ابن أبي ذئب رحمه الله فيه كلامًا شديدًا، ومرادهم حفظ الدين.

7- عدم اعتبار الشافعي رحمه الله للقصد والنية في المعاملات والعادات،وما أدى إليه ذلك من تجويز بيع العينة ونكاح التحليل وأمثالهما،ودخول أهل الحيل في مذهبه.

8- وتكثر هذه المسائل عند المتأخرين ومن أجلهم ابن تيمية رحمه الله فهو ليست عنده بدع ظاهرة ولا انتسب لغير أهل السنة والحديث،لكن عنده ما يستشنع كاستخدام طريقة في الرد على أهل البدع قد نهى السلف عنها، ومدح بعض المبتدعة،والفتوى بمسائل شاذة في الطلاق والربا وقصر الصلاة،وغير ذلك خالف فيها الأئمة السابقين-جمع بعضها ابن سحمان في قصيدة شهيرة- فحكى ابن رجب رحمه الله في ترجمته أن علماء عصره أنكروا ذلك عليه.

9- ومما يشبه تلك المسائل المستشنعة،عذر المشرك المعين بالجهل،فإن كان الشخص لا يكفر جنس عباد القبور مطلقًا،ويزعم أن التلفظ بكلمة التوحيد تنجيهم ولو لم يتركوا ملتهم فهذا ما عرف الإسلام فضلاً عن أن يدخل فيه. وإن كان يكفر الجنس ولكن إذا جاء المعين أطلق عليه الاسم الظاهر وهو(مشرك) وامتنع من الاسم الباطن وهو (كافر) وظن أن الجهل ينفعه في عدم تكفيره، أو أنه يمتحن في الآخرة فهذه شبهة يجب إزالتها عنه وإقامة الحجة عليه قبل الحكم عليه مع التشنيع البالغ على قوله؛لأن هذا مثله قد يخفى خاصة في هذه العصور البعيدة عن نور النبوة.

10- ومن ذلك عدم تكفير تارك الصلاة تهاوناً؛فالقائل به قد لا يبلغه إجماع الصحابة القاطع للشواغب،ومحكمات القرآن والسنة الواضحة،وقد يغتر بالخلاف أو بمن حكى الخلاف من المتأخرين،أو عرضت له شبهات وتأويل فمثله لابد من إزالة الشبهة وإقامة الحجة قبل الحكم عليه مع الاستمرار في التحذير من خطئه بما يناسب الموقف.

11- ومن ذلك مدح بعض أئمة الضلالة فإنه لا يستعجل في الحكم على المادح حتى تبين له الآثار والسنن وواقع الممدوح وأقواله. ثم يكون حكمه بعد العلم غير حكمه قبل العلم، مع التشنيع على قوله,والله يقول (كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا).ويستعان بالقاعدة الرائعة التي ذكرها السجزي عندما مدح ابن أبي زيد القيرواني أبا الحسن الأشعري الضال فإنه قال:هل المادح على دين الممدوح؟ثم أكمل القاعدة فلتراجع.

12- ومن ذلك عدم الجزم للمعين الذي مات على كفره ظاهراً بالنار،والظن أن هذا من باب التألي على الله أو الظن أن الاحتمالات الضعيفة قد تمنع الجزم له بذلك، فيبين لقائل ذلك قول الله تعالى(من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم) تبين لنا ونحن في الدنيا لذلك لا نستغفر له،ويبين له حديث (أيما قبر قرشي أو عامري مررت عليه فبشره بالنار)ونحو ذلك فيشنع قوله ويترفق به. وهكذا كل المسائل التي قد تخفى وتشتبه؛الأصل فيها: الحذر منها ورد الجهالات إلى السنة، والتريث في الحكم على صاحبها.

قال إسحاق بن راهوية رحمه الله: ( العالم الذي يفتي بالشيء يكون مخالفاً لما جاء عن الصحابة أو التابعين بإحسان فإن على المتعلمين أن يهجروا ذلك القول بعينه من العالم، ومن رد عليه فليس عليه نقص إذا رد على من هو أعلم منه؛ لحديث "إن أخوف ما أخاف على أمتي اتباع زلة العالم فإذا زل فلا تتبعوه" ولقد مدح ابن المبارك سفيان الثوري وقال ما رأت عيناي مثله ولم يمنعه ذلك من أن يرد خطأ سفيان ويظن به الظن الحسن أن ذلد قد فاته،فمن اقتدى بابن المبارك لزمه مثل ما لزمه) مسائل الكوسج 588.

ولهذا قد يعذر السابق ولا يعذر اللاحق لخفاء الأمر على الأول واتضاحه وتحرره للآخر.

والخفاء مسألة نسبية تحكمها الأوقات والأزمنة والظروف والمسائل، فمثلاً في أول الإسلام يتصور وجود موحد لم يسمع بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يفرط،ويموت على توحيده ويرجى له الخير. لكن هذا يصعب تصوره في وقتنا الحاضر. وعلى هذا فقس. ولذلك قال عمر رضي الله عنه (لا عذر لأحد في ضلالة ركبها يحسبها هدى فقد بينت الأمور وانقطع العذر).

وبالمقابل فانفجار البدع كالبحر إذا انبثق، واستقرارها حتى نشأ فيها الصغير وهرم فيها الكبير وصارت سنة إذا غيرت صاح الناس وقالوا: غيرت السنة، يوجب علينا الجهاد في سبيل الله لنعش الآثار وإحياء السنن وإماتة البدع،وأما في الأشخاص المغترين بأهل البدع فذلك يوجب علينا عدم التسرع في الحكم عليهم مع التحذير من تخليطهم وجهالاتهم؛فإن فتنتهم فتنة عظيمة،خاصة لما رأوا شهرة المبتدعة وتأليفهم في كل فنون العلم ومدح الناس لهم منذ قرون عديدة،وليس عند هؤلاء من نور النبوة ولا من الخبرة بتمويه البدع وخداعهم ما يدفع ذلك.كما أننا في زحام الحرمين لا نقدر على رد النساء عن المرور أمامنا واختلاطهن بصفوف الرجال والسترة فتكون له أحكام تخصه فالأمر إذا ضاق جداً اتسع

ومن تأخر موته من الصحابة قد عجز عن أشياء ما كان ليعجز عنها لو كان أصحابه متوافرون، بل قال أنس (منذ مات رسول الله صلى الله عليه وسلم أنكرنا قلوبنا) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (منذ مات عمر رضي الله عنه انثلم الحائط فالناس يخرجون كما دخلوا)، وإنكار المنكر درجات.

روى أبو نعيم في الحلية وغيره أن عبدالملك بن عمر بن عبدالعزيز رحمه الله قال لأبيه لما تولى الخلافة ورأى بدعاً مستقرة ومظالم فاشية: يا أبت! لم لا تميت ذلك كله في يومك هذا ثم لا أبالي لو فارت بي وبك القدور؟! قال: يا بني! إني الآن لا أميت بدعة حتى أخرج لهم من الدنيا ما إذا نفروا من مرارة ما اعتادوه سكنوا إلى ما أعطيتهم من الدنيا، وكل يوم أميت بدعة وأحيي سنة حتى أموت،هذا ما أطيقه. فإذا كان هذا حال عمر بن عبدالعزيز وهو خليفة وفي آخر القرون الفاضلة فكيف بحالنا.وما حكم عمر عند الذين لا يعلمون هل يعتبر قد خذل الدين وأقر البدع وقد ولاه الله الأمر؟أو هو إمام هدى بالإجماع.

وقد كان أهل الحديث في أول الأمر لا يقبلون رواية المبتدع ولا يأخذون عنه العلم ولا يعطونه إياه؛ كما في أثر ابن سيرين وزائدة بن قدامة وغيرهم، ثم كثر أهل البدع فاضطر أهل العلم لأخذ الرواية عنهم دون الرأي بشروط معروفة. والله يعلم المفسد من المصلح والعاجز من الفاجر.

قال عبدالله بن أحمد قلت لأبي ما تقول في أصحاب الحديث يأتون الشيخ لعله أن يكون مرجئاً أو شيعياً أو فيه خلاف السنة أيسعني أن أسكت فلا أحذر منه أو أحذر منه؟ قال إن كان يدعو إلى بدعته هو إمام فيها يدعو إليها فيحذر عنه. مسائل عبد الله 1830.

وقال الكوسج: (قلت لأبي عبدالله –الإمام أحمد-: من يقول القرآن مخلوق؟ قال: ألحق به كل بلية قلت: يقال له: (ك.ف.ر) قال: إي والله كل شر وبلية بهم. قلت: فنظهر لهم العداوة أو نداريهم. قال: أهل خراسان لا يقوون عليهم؛ كأنه يقول: المداراة) مسائل الكوسج (3386) والسنة للخلال 2/317.

تاسعاً: يجب أن نعلم أن أحكام السلف على أشخاص معينين في زمانهم إنما هي قضايا أعيان، وصكوك أصدروها على أشخاص معينين في واقع معين أمامهم،تكتنفه أمور كثيرة في الشخص المحكوم عليه وحاله وباطن أمره؛ولذلك فمن الظلم لهم أن نجر هذه الأحكام على أشخاص معينين في زماننا، ونحن لم نتأكد أنهم مثل أولئك من كل وجه ثم ننسب ذلك للإمام. فهذا لا يفعله إلا من قال الله فيه (وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ)؛ولذلك نهى أحمد رحمه الله عن كتابة كلامه وأحكامه وفتاويه؛لأنه يعلم أنه سيأتي من لا ينزلها منازلها. وقبل أحمد عمر وابن مسعود رضي الله عنهما وغالب السلف نهوا عن كتابة الفتاوى والأحكام لهذا السبب ولغيره، وبعض كلام أحمد مثلاً فيه غلظة؛ المراد منها الردع والتوبيخ وذلك يشبه نصوص الوعيد وحديث (من غشنا فليس منا) وحديث (أنا بريء ممن يقيم بين المشركين) فهي سياسة شرعية يراد بها حفظ الدين؛ فمثلاً لما قال عن أبي ثور: إنه جهمي لم يرد أنه كافر أو أنه مثل الجهمية المحضة، لكنه شابههم فغلظ عليه، ومثله قوله لمن يكلم المبتدع: أخبره وإلا ألحقه به،مراده من يختلف إليهم ويداهنهم على حساب الدين لا مجرد التعامل أو الكلام وهكذا.ثم إن أحمد كان في ساحة حرب مع الجهمية وكان هو القائد حامل الراية،وفي مثل ذلك الظرف يشنع على المخالف والخاذل ما لا يشنع على مثله في غير تلك الظروف لأنه من التولي عند الزحف وهو من الموبقات،وأصله هجر كعب بن مالك وصاحبيه لما تخلفوا وكيف غلظ عليهم حتى جاءت توبتهم من السماء. والمرجع الأساس القرآن والسنة وفهم آثار الصحابة والتابعين فهمًا سديدًا،ولا يمكن اتباعهم بإحسان إلا بالفهم المسدد لما كانوا عليه،قال أحمد (لا تأخذوا عني ولا عن سفيان خذوا من حيث أخذنا) ولما ذكر له بعض أقوال ابن المبارك المشتبهة قال (إنما نريد أن نأخذ العلم من فوق).

ومسألة الحكم على المخالف خطيرة مرعبة؛لأن الحكم إذا لم يوافق المحل ترتب عليه أشياء منها:

1- أن يرجع على صاحبه الذي أطلقه؛ لحديث: (من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما).

2- أن المحكوم عليه ظلمًا وعدوانًا سيكون خصماً لك يوم القيامة (ولعن المؤمن كقتله).

3- أن هذا البغي سيعود على صاحبه سريعاً؛قال تعالى (إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم).

4- إن زدت على ذلك بأن دعوت إلى هذا البغي فأنت لا تضل غيرك في الحقيقة بل تزيد في إضلال نفسك؛ قال تعالى (وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُون).

عاشرًا: نحن أهل سنة وجماعة لا تنفع واحدة إلا بأختها كالشهادتين-إلا في الضرورة والعجز التام عن الجمع بينهما-، فمن أمسك بالسنة وترك الجماعة دون ضرورة أوشك أن يكون حرورياً،ومن أمسك الجماعة والتجميع وترك السنة صار مرجئياً، ولذلك فنحن قد نصلي خلف المبتدع إذا لم تمكن الصلاة إلا خلفه؛لأجل الجماعة وكذلك الحج والعمرة والجهاد والزكاة والصلاة بالحرمين وعرفات ومنى ومزدلفة ونحو ذلك. وسأفرد لهذا مقالاً مستقلاً بإذن الله. قال عبدالله بن أحمد رحمهما الله: سمعت أبي يقول: (من قال القرآن مخلوق لا يصلى خلفه الجمعة ولا غيرها إلا أنا لا ندع إتيان الجمعة إذا نودينا لها،فإذا صلى رجل خلفه أعاد الصلاة) السنة لعبدالله 1/103. (وإنما تعاد الصلاة خلف المبتدع الكافر اتفاقاً وخلف غيره عند بعض الأئمة).وهذا الجمع بين السنة والجماعة يذهب الغل من طرف،ويحفظ الدين من طرف،وأهله هم أكمل الناس وفي الحديث (ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم:إخلاص العمل لله ولزوم جماعة المسلمين ومناصحة من ولاه الله أمرهم) وما أعظمه من حديث.

وفي الختام: من أراد العصمة من البدع فعليه بالسنة والأثر؛فالسبب الرئيس للبدع عند من نيته صالحة قلة العلم بآثار النبوة والاعتماد على المتأخرين؛ولذلك لا يمكن أن يكون في الصحابة مبتدع؛لعظم آثار النبوة في قلوبهم،وكلما اقتربنا من العهد الأول عُصمنا من البدع، فإن كان الله لم يقدر لنا أن نعيش معهم بأجسادنا فلنعش معهم بأرواحنا وقلوبنا وعلومنا، ومن ذاق حلاوة القرآن والحديث والأثر لم يستسغ كلام المتأخرين العاري عن ذلك. كذلك من أراد إطفاء البدعة وإحياء السنة فعليه بنعش الآثار وإحيائها،وعقوبة المبتدعة على حسب طبقاتهم؛فهذا أعظم الجهاد في سبيل الله،وأما غير هذا السبيل فإنه لا يزيد البدع إلا اشتعالا؛قال تعالى (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُون) وقال (وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا) وصلى الله على عبده ورسوله محمد.