تبرئة أئمة الدين من مخالفة إجماع الصحابة السابقين
في تكفير تارك الصلاة تهاونًا وكسلا


( وقفة مع الأسطورة الشهيرة القائلة: إن جمهور العلماء خالفوا إجماع الصحابة فلم يكفروا تارك الصلاة تهاونًا)

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فيقول القائل:
ومن صحب الدنيا طويلا تقلبت
على عينه حتى يرى صدقها كذبا

كثيرًا ما يقرأ طلبة العلم منذ المائة الخامسة وما بعدها أن جمهور العلماء لا يكفرون تارك الصلاة تهاونًا ومنهم أئمة الحديث الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد، ثم يقع هؤلاء الطلبة في حيرة والتباس إذا قرأوا أن الصحابة قد أجمعوا على كفر تارك الصلاة ثم خالف هؤلاء الأئمة إجماع الصحابة وهذه من المسائل المشكلة والمحيرة في الفقه.

ولكن بعد أن نثبت هنا إجماع الصحابة القاطع – وهو الإجماع الصحيح المنضبط وما سواه لا يمكن ضبطه ولا ادعاؤه – ثم نثبت الأقوال الثابتة لهؤلاء الأئمة؛ سيتبين أن تلك الدعوى ما هي إلا من الأساطير العارية عن الحجج والبينات والتي قد سارت بها الركبان لموافقتها لأهواء النفوس.

أولاً: إجماع الصحابة:

أول من حكى إجماع الصحابة هم الصحابة أنفسهم فألفاظهم تدل على عدم اختلافهم في ذلك وتعجبهم ممن يسأل عن ترك الصلاة أو يقرنه بغيره من الذنوب.والآثار في ذلك كثيرة موجودة في أبواب الإيمان في كتب العقائد منها: لما سئل جابر رضي الله عنه :هل في المصلين مشرك؟ قال لا، لم يكونوا يدعون في المصلين مشركاً. وقال له مجاهد بن جبر: ما كان يفرق بين الكفر والإيمان عندكم من الأعمال في عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟ فقال مباشرة: الصلاة. ومثله عن ابن مسعود وحذيفة وأنس وغيرهم وقد قال عمر على المنبر وهم متوافرون( لا إسلام لمن لم يصل) وأعادها لما أحاطوا به بعد طعنه ولم ينكره أحد. فإن لم يصح هذا الإجماع فلا إجماع في الدنيا.

ثم حكى إجماع الصحابة طوائف من العلماء ومن أقوى ما ورد في حكاية إجماع الصحابة سنداً ومتناً ومكانة قائله ما رواه محمد بن نصر المروزي عن شيخه الإمام إسحاق بن راهويه في كتابه تعظيم قدر الصلاة ص(565) حيث قال "سمعت إسحاق يقول: قد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تارك الصلاة كافر وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا: أن تارك الصلاة عمداً من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر".

ثانياً: تحقيق مذاهب الأئمة في تكفير تارك الصلاة:

اشتهر عن الأئمة الثلاثة -مالك والشافعي وأحمد في رواية -أنهم لا يكفرون تارك الصلاة كسلاً. وهذا مخالف للحقيقة على النحو التالي

أولاً: مذهب الإمام مالك رحمه الله:

يعتبر «ابن أبي زيد القيرواني» هو جامع علم مالك وفتاواه حتى سمي «مالك الصغير» وعليه يعول المالكية في كتبهم، ولو لم يؤلف إلا كتابه العظيم «النوادر والزيادات» الذي جمع كل فتاوى مالك ومسائله مما لم يرد في الموطأ أو المدونة لكفاه.

ويوازيه في هذه المنزلة «البيهقي» عند الشافعية فهو جامع علم الشافعي وفتاواه.

«والخلال» عند الحنابلة فقد جمع مسائل أحمد وعلومه في جامعه من أكثر من مائة من أصحاب أحمد بينما لم يصلنا من هذه المسائل سوى عدد لا يبلغ أصابع اليدين،فعلى هؤلاء الثلاثة بنيت المذاهب الثلاثة، من حيث جمع المذهب وتحريره.

وقد ذكر أبو محمد بن أبي زيد القيرواني في آخر كتابه «النوادر والزيادات» مسألة كفر تارك الصلاة (14/537)فقال "قال ابن حبيب: وأما تارك الصلاة إذا أمره الإمام بها فقال: لا أصلي فليقتل ولا يؤخر إلى ما بينه وبين آخر ووقتها وهو بتركها كافر؛ تركها جاحدًا أو مفرطًا أو مضيعًا أو متهاونًا لقول النبي عليه الصلاة والسلام: «ليس بين العبد وبين الكفر إلا ترك الصلاة ... »... وقاله كله مطرف وابن الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ ورواه ابن القاسم ومطرف عن مالك مجملاً بغير تلخيص.

ثم تأول القيرواني الحديث المذكور بالجحد وعارضه بحديث عبادة. ولكنه لم ينسب ذلك لمالك. و كذلك ابن عبدالبر في التمهيد وهو حجة في معرفة مذهب مالك لما حكى القول بعدم التكفير نسبه لأصحاب مالك ولم ينسبه لمالك مع أنه يميل إلى هذا القول_ مع اضطراب عنده في ذلك_ وكذلك ابن أبي زيد يميل إليه،ولو ظفروا لمالك بكلمة لما تأخروا في نقلها والاستناد إليها.

وقد تتبعت كثيرًا من كتب المالكية فلم أعثر على كلمة لمالك في عدم التكفير يخالف بها إجماع الصحابة،بل لم ينقل عنه الطحاوي إلا القول بالتكفير وسيأتي.

ثانياً: مذهب الإمام الشافعي رحمه الله:

يعتبر «إسماعيل المزني» (ت264هـ) من علية أصحاب الشافعي وهو الذي غسله عند موته،ولا يتقدمه أحد من أصحاب الشافعي حتى قال فيه الشافعي: «المزني ناصر مذهبي».

ومختصر المزني الذي اختصر فيه «الأم» وحرر فيه أقوال الشافعي هو أصل المذهب كله. قال ابن العماد: «وهو أصل الكتب المصنفة في المذهب وعلى منواله رتبوا ولكلامه شرحوا». ومع ذلك قال المزني في مختصره (ص53) يحكي قول شيخه وهو أعلم الناس به: «قال الشافعي: يقال لمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها بلا عذر: لا يصليها غيرك فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك،كما يكفر فنقول: إن آمنت وإلا قتلناك». قال المزني: «قد جعل تارك الصلاة بلا عذر كتارك الإيمان (التوحيد) فله حكمه في قياس قوله؛ لأنه عنده مثله».

وهذا «أبو جعفر الطحاوي» وهو ابن أخت المزني، وأخذ مذهب الشافعي عن خاله ثم انتقل لمذهب أهل الرأي وهو من أبصر الناس بالشافعي وباختلاف العلماء،ومع ذلك ذكر أن مذهب الشافعي هو تكفير تارك الصلاة، ولم يذكر في ذلك وجهًا آخر له.قال في كتابه مختصر اختلاف العلماء(4/393): " قال حفاظ قول مالك: إن من مذهب مالك أن من ترك صلاة متعمداً لغير عذر حتى خرج وقتها فهو مرتد ويقتل إلا أن يصليها وهو قول الشافعي ؛ روى الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام(بين العبد وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة)".

وقد قرأت الأم وكتب الشافعي فلم أجده نص على عدم كفر تارك الصلاة إلا ما نسبه إليه «محمد بن نصر المروزي» في كتابه: (تعظيم قدر الصلاة) مع أبي ثور، وأبي عبيد.

ثالثًا: مذهب الإمام أحمد رحمه الله

جامع الخلال العظيم الذي جمع فيه كل أقوال أحمد وعلومه مفقود، لكن من رحمة الله وفضله أن وجدت منه قِطعٌ يسيرةٌ والذي وجد مما تمس له الحاجة مثل (السنة) و(أحكام الزنادقة) وإلا فالأصل يبلغ عشرين جزءًا كبيرًا.

وقد نقل الخلال كل فتاوى أحمد في تارك الصلاة في كتابه (أهل الملل والردة والزنادقة وتارك الصلاة والفرائض من كتابه الجامع) (2/535).

واستوعب الخلال كعادته كل ما نقل عن أحمد في المسألة بما لا يستطيع أحد الزيادة عليه فعقد بابًا بعنوان (من ترك الصلاة فقد كفر) ثم نقل عشر روايات عن أصحاب أحمد وهم:

(عبدالله بن أحمد – واليمامي – والإسكافي – وأحمد بن حسان – وحنبل – وحرب الكرماني – والمروذي – وأبو الحارث الصائغ – والميموني – وأبو داود السجستاني)، وكلهم ينقل عن أحمد تكفيره. وفي رواية اليمامي قال: «لا يرث ولا يورث» وفي رواية ابنه عبدالله احتج بحديث جابر: «بين العبد والكفر ترك الصلاة» وفي رواية الإسكافي قال: «لا أعرف الحديث إلا على ظاهره وأما من فسره جحودًا فلا نعرفه وقد قال عمر: «لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة» وفهم أحمد من كلام عمر أن تارك الصلاة لا حظ له في الإسلام مطلقًا فهو كافر.

وفي رواية ابن حسان قال: «ليس بين الإيمان والكفر إلا ترك الصلاة» وفي رواية حنبل قال: «لم نسمع في شيء من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة» وكذا في رواية حرب واحتج بالحديث.

وفي رواية أبي بكر المروذي وقد سأله عمن ترك الصلاة استخفافًا ومجونًا فقال: «سبحان الله إذا تركها استخفافًا ومجونًا فأي شيء بقي». حتى عاتب المروذي فقال: «هذا تريد تسأل عنه؟! وقد قال عليه الصلاة والسلام: «بين العبد والكفر ترك الصلاة»».

وفي رواية أبي الحارث أفتى أحمد بكفره بمجرد الترك واحتج بالحديث فأعاد عليه السؤال وقال السائل: هو كان مواظبًا على الصلاة ثم تركها وقال لا أصلي ولم يقل الصلاة غير فرض (أي لم يجحد) فقال أحمد: قال النبي عليه الصلاة والسلام: «من ترك الصلاة فقد كفر».

وقال في رواية الميموني: «لم يجيء في شيء ما جاء في الصلاة».

وكذا حكى عنه أبو داود تكفير تارك الصلاة.

ثم ساق الخلال عشر روايات أخر عن ابنه صالح، والمروذي، وحنبل، والكحال، وابن هاني، والكوسج، والفضل بن زياد، وأبي الحارث الصائغ، والميموني، وابنه عبدالله، أنه يستتاب ثم يقتل، في باب مستقل.

ثم عقد بابًا بعنوان: (باب الرجل يترك الصلاة حتى يخرج وقتها). وساق فيه تسع روايات، والعاشرة بسنده إلى عبدالله بن المبارك أنه قال: «إذا قال: أصلي الفريضة غدًا فهو عندي أكفر من الحمار».

وفي هذا الباب ساق رواية أبي طالب وسنقف عندها؛ لأن بعض الحنابلة في المائة الخامسة من الهجرة توقف عندها وترك عشرات الروايات المحكمات مع أنه لا حجة فيها كما سيأتي:

روى الخلال بسنده إلى أبي طالب أنه سأل أبا عبدالله عن قول النبي عليه الصلاة والسلام : ««من ترك الصلاة فقد كفر» متى يكفر قال: إذا تركها، وبعضٌ يقول: إذا جاز وقت الصلاة التي ترك كفر ويدخل عليهم قول النبي عليه الصلاة والسلام : «يكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها» فقد قال عليه الصلاة والسلام : «يؤخرون الصلاة عن الوقت» قلت: إذا ترك الفجر وهو عامد ثم جاء الظهر ولم يصل ثم صلى العصر وترك الفجر فقد كفر؟! قال هذا أجود القول... إلى قوله: إذا تركها حتى يصلي صلاة أخرى فقد تركها فقلت: فقد كفر؟ قال: الكفر لا يقف عليه أحد ولكن يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه».

وهذا لا حجة فيه أمام عشرات الروايات السابقة، بل أول هذه الرواية فيه التصريح بكفره ولكن لعل أحمد رحمه الله أراد من تلميذه التثبت في إطلاق الكفر أو أراد أن الذي على العالم الحكم في الدنيا حسب النصوص، وأما حقيقة الأمر فهي إلى الله ونحو ذلك.

وهذا يفتح بابًا للمحققين من أهل العلم أن كثيرًا مما ينسب لأحمد رحمه الله لا يصح أن يطلق عليه رواية ثانية . بل له ظرفٌ معين أو سبب معين، وكلامه المطرد واضح .

ولكن مع التعصب المذهبي ورغبة الأتباع أن يكون لإمامهم قول في كل مسألة فإن لم يجدوا خرجوا على قوله نسبت للأئمة أقوالٌ كثيرة لم يقولوها.

ومما يدل أن كلام أحمد لم يختلف أن الخلال عقد بابًا بعده في ترك الصيام وساق رواية الميموني فيمن قال: «الصوم فرض ولا أصوم» فقال أحمد: «يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه». ثم ساق رواية الأثرم: «أن الإمام سئل هل تارك الصوم مثل تارك الصلاة، فقال الصلاة أوكد . وإنما جاء في الصلاة (أي الكفر) فليست كغيرها». وساق رواية أبي طالب نفسه أن أحمد قال: «ليس الصوم مثل الصلاة والزكاة، لم يجيء فيه شيء، ولا نجعله مثل الصلاة والزكاة».

وهذا يدل على أن الأئمة يفصلون بين مسألة قتل التارك وتكفيره، وأكثر كلامهم في قتله واستتابته، ولا يعني ذلك عدم تكفيره.

وفي أحد الأبواب أفتى أحمد الزوج أوالزوجة -إذا كان صاحبه الآخر لا يصلي- فقال: «فلا يجوز له البقاء ولابد من التفريق».

خاتمة:
هذا ما وجدته من كلام أهل العلم المقتدى بهم ولم أجد ما يعارضه إلا عند المتأخرين وهؤلاء خالفوهم في العقائد غالباً وهم يعلمون كلامهم فلا يستغرب منهم أن يحرفوا هذه المسألة عن مواضعها. ولذلك فهذه المسألة إجماعية لا خلاف فيها معتبر وهي عمود الدين وأدلة هذا الإجماع القطعية سأجمعها في مقال آخر بإذن الله. فمن وجد ما يخالف هذا الإجماع فليبصرنا وليرفع رأسه وعقيرته بذلك حتى يحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة. والله الموفق والمعين وعليه التكلان وبه الاستعانة ولا حول ولا قوة إلا به وصلى الله على نبيه محمد.