واحة الراحة :

العمل الصالح ، وهو الزاد ليومِ المعاد ، فالطاعات حدائقٌ مثمرة ، يتزوَّد منها المسافر ، وأنهارٌ سائرة يرتوي بمائها العابر، ومحطَّات مسافرة يستريح فيها المهاجر إلى اليوم الآخر .
قال تعالى : { ومن يتق الله يجعل له من أمره يسراً }[19]
وقال تعالى : { من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون }[20]
وللطاعة أثرٌ ملموس ، وواقعٌ محسوس على استجلاب السعادة ودفع الأحزان ، فإنَّ الطاعة ترضي الرَّب وتبعث الرضا في القلب ، وتشغل العبد عما يجلب له التكدير ، وليس من ذاق كمن سمع !
فمن كان من الله أقرب ، وله أطوع ، كان من السعادة أقرب ، وبها أمتع .
" كان شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ يقول : من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية " [21]
ولستُ أرى السعادةَ جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيدُ
وتقوى الله خير الزادِ ذخراً وعند الله للأتقى مزيدُ
وما لا بُدَّ أن يأتي ، قريبٌ ولكنَّ الذي يمضي بعيدُ [22]
" قال بعضهم : مساكين أهل الدنيا ! خرجوا منها وما ذاقوا أطيب شيءٍ فيها . قيل : وما هو ؟ قال : معرفةُ الله عزَّ وجلَّ ، فمن عاش في الدنيا لا يعرف ربَّه ولا ينعم بخدمته ، فعيشُه عيش البهائم .
نهارُك يا مغرورُ سهوٌ وغفلةٌ وليلك نومٌ والردى لك لازم
وتتعب فيما سوف تكره غِبَّه كذلك في الدنيا تعيش البهائم " [23]
" أكل إبراهيم بن أدهم ـ رحمه الله ـ مع أصحابه كِسراً يابسة ، ثم قام إلى نهرٍ فشرب منه بكفه ، ثم حمد الله ، وقال : لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من النعيم والسرور لجالدونا بالسيوف أيام الحياة ، على ما نحن فيه من لذيذ العيش وقلَّة التعب " [24] .
و" قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله : إنَّ في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنَّة الآخرة " [25]
اتَّصل بالملأ الأعلى:

الصلاة : وهي الواحة الوارفة الظلال ، والماء النمير العذب الزلال ، وكيف لا تكون مجلبة السعادة ومطردة الأحزان وهي صلة العبد بربِّه ، ومقام الذُّل بين يدي خالقه ، فهي أشرف هيأته ، وأكرم حركاته ، وأعزُّ قرباته .؟!
وإن المخبتين من المؤمنين في ليل العبادة ليشعرون بسعادة لو وزِّعت على أشقياء الأرض لكفتهم !
واسألوا عنها أهلها ، فلديهم الخبر اليقين !
فعن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" حُبِّبَ إليَّ من الدُّنيا ؛ النِّساءُ ، والطيب ، وجعل قُـرَّةُ عيني في الصلاة " [26]
وعن حذيفة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا حزبه أمر صلَّى " [27]
قال تعالى :{ خلق الإنسان هلوعًا . إذا مسَّه الشر جزوعًا . وإذا مسَّه الخير منوعًا . إلآ المصلين } [28]
ولو سألت من يشكو إليك من الأرق والقلق ، والهم والوهم ، والألم والندم ، والأحزان عن صلاته ـ وكان صادقاً معك ـ لأجابك أنه مقصِّرٌ فيها ، غير مكترث بها ، ولا محافظٍ عليها ، ما ذاق حلاوتها ، ولا أحسَّ بروعتها ، وإن كان من المصلين ، فصلاته حركاتٌ جوفاء قلَّ فيها الخشوع ، وضعف فيها الخضوع ، وهما روحها ولُبٌّها .
قال تعالى :{ واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلاَّ على الخاشعين } [29]
مربط الفرس :

البعد عن المعاصي ، فمن ذنوبنا يُسلَّط علينا ، ومن معاصينا نُؤتى ، قال تعالى : { وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ..} [30]
فالمعاصي خندقٌ ضيِّق ، ونفقٌ مظلم ، تجلب الحزن والكآبة ، وتطرد الراحة والسعادة .
قال تعالى : { ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ..}[31]
وحال من كثرت سيئاته ، وزادت خطيئاته كحال من هو محبوس بين حيَّاتٍ وعقارب ، تلسعه هذه ، وتلدغه تلك ؟!
فكيف يكون حاله ، وقد وهت ـ مع الله ـ حباله ؟!
قال تعالى : { ولنذيقنهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلَّهم برجعون } [32]
كن في ملاذات آمنة :

ذكر الله تعالى ، فإن الذكر قلاعٌ حصينة ودروع مكينة ، تحمي من استجن بها من كلِّ حزن وألم ، فهو يبعث الطمأنينة في القلب ، والراحة للنفس ، فهي قريبة من الله تعالى بقدر قربها من ذكره وشكره .
قال تعالى : { فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى . ومن أعرض عن ذكري فإنَّ له معيشة ضنكا }[33] هذا في العاجلة { ونحشره يوم القيامة أعمى } وذاك في الآجلة .
عن أبي موسى ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" مثَلُ الذي يذكُرُ رَبَّهُ والذي لا يذكُرُ ربَّهُ مَثلُ الحيِّ والميِّتِ " [34]
وإذا كان أهل الغرام والهيام لا يهنأ لهم بال ولا يطيب لهم حال إلاَّ إذا تغنوا بمعشوقيهم ، وترنموا بأسمائهم وصفاتهم ، فما حال المحبِّ الصادق للإله الخالق ؟!
أيُّ أنسٍ يعيش ؟! وبأيِّ مسرَّة يحس ؟! عندما يلهج لسانه وجنانه بذكر ربِّه ! جلَّ شأنه !
ومن أحبَّ شيئاً أكثر من ذكره ، وترنَّم باسمه ، ولزم محبوباته ، فلا أسعد منه حالاً ، ولا أهنأ منه عيشاً حالما يتكلم عن محبوبه الذي ملك عليه فؤاده وقلبه ، وعقله ولُبَّه .
قال تعالى :{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب }[35]
وأعظم الذكر وأكرمه ؛ القرآن العظيم !
قال تعالى :{ يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين } [36]
تخفَّف من الأحمال :

التوبة لله تعالى ، والرجوع إليه ، والانطراح بين يديه .
ويشعر بلذة السعادة من نشأ في الغفلة عن الله تعالى ردحاً من الزمن وشقي بمعصية الله تعالى ثمَّ تاب وأناب ، ورجع إلى ربِّه التواب ، فأقبل بعد أن أدبر ، وتقدَّم بعد أن أحجم ، وتعرَّض لرحمة الله ، بعد أن أعرض عن خالقه ومولاه ..
قال تعالى : { أومن كان ميتاً فأحييناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات .. } [37]
فلا إله إلاَّ الله !
ما أشرح صدره ! وما أفسح قلبه !
يتقلَّب في نعيم الطاعة بعد أن تمرَّغ في جحيم المعصية ، ويتذوَّق سعادة القربِ والحبِّ ، بعد أن غصَّ بحسرة الصدِّ والبعدِ ، فكيف لا يكون سعيداً ؛ وقد خُلق خلقاً جديداً ، وولد ميلاداً فريداً ؟!
قدِّم لنفسك :

صنائع المعروف ، والإحسان للنَّاس ، من أعظم أسباب دفع السوء والبأس .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم :" صنائعُ المعروفِ تَقي مصارعَ السوءِ والآفاتِ والهلكاتِ ، وأهل المعروفِ في الدنيا هُم أهلُ المعروفِ في الآخرة " [38]
وأهل الإحسان للناس هم أهل الإحسان من ربِّ الناس !
و{ هل جزاء الإحسان إلاَّ الإحسان }[39]
وإنَّ القلب ليهتزُّ طرباً وغبطةً وسروراً عندما يرى السرور يطفح على محيَّا البائسين المحرومين .
ومن جرَّبَ عرف ، ومن ذاقَ .. فاق !
فلا نامت أعين الكسالى ! ولا طابت حياة البخلاء !
الخيرُ زرعٌ والفتى حاصدٌ وغايةُ المزروع أن يحصدا
وأسعدُ العالم من قدَّم الإحسان في الدنيا لينجو غدا [40]
وأعظم الإحسان ما كان على الأيتام ؛ برعايتهم وتربيتهم ، والقيام على مصالحهم ، والرأفة بهم ، والحنو عليهم ، والعطف واللطف معهم .
فعن أبي الدرداء ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : " أتحبُّ أن يلين قلبك وتدرك حاجتك ؟ ارحم اليتيم ، وامسح على رأسه ، وأطعمه من طعامك ، يلن قلبك ، وتدرك حاجتك "[41]
مكمن الداء وموضع البلاء :

السلامة من العشق الشيطاني والحبِّ الشهواني ، وخلُّو القلب من التعلق بغير الرَّب ، فأكثر الأحزان من هذه المصيبة الرهيبة !
فالعاشق شقي بمعشوقه ، يحزن لغيابه إذا بعد عنه ، ويحزن لخوف فراقه إذا لقيه ، ويخاف من عذاله والحاسدين له والشامتين به ، ويخشى الغدر من محبوبه ، ومن فوات مطلوبه منه ، فهو في أودية العذاب يهيم ، وفي فيافي الشقاء مقيم .
أمَّا من مليء قلبه بمحبة ربِّه ، فهو السعيد حقَّاً ، والموفق صدقاً . فلمحبَّة الله تعالى حلاوة يجدها في قلبه ، ولذة يحسها في فؤاده .
عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ثلاث من كنَّ فيه وجد بِهنَّ حلاوة الإيمان ـ وفي لفظ ـ لا يجد عَبدٌ طعم الإيمان إلاَّ من كان في قلبه ثلاث خصال : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، وأن يحب المرء لا يحبه إلاَّ لله ، وأن يكره أن يرجع إلى الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار " [42]
وليس التعلُّق مجرداً في قدٍّ وخدٍّ وجيد ، بل يتعدَّاه إلى غيره كعشق المردان عند الفتيان ، أو الإعجاب عند الفتيات ، أو حبّ الكرة والرياضة عند بعض المجنونين بها ، أو الفنِّ وأهله عند بعض المعجبين به ، أو السيارات عند المتعلقين بها ، أو غير ذلك مما هو لغير الله تعالى .
ومن أحبَّ شيئاً عُذِّبَ به سوى الله جلَّ وعلا .
كلُّ محبوبٍ سوى الله سرف وهمومٌ وغمومٌ وتلف
سهامٌ في لُبَّة الأحزان :

الدعاء ، وهو سلاح المؤمن المعطَّل ، وملاذه عند الشدائد ، ومفزعه حال الكروب ، وملجأه عند تعسُّر الدروب ، فلعلَّ السعادة كانت مترَّسة خلف باب التوفيق وولجت إليه بدعوة خالصة من قلب صادق ، فالدعاء سهمٌ يستنزل التوفيق من السماء ، ويستمطر منها الهناء !
وما مسني عسرٌ ففوَّضت أمره إلى الملك الجبار إلاَّ تيسراً
قال تعالى على لسان موسى ـ عليه السلام : { رب اشرح لي صدري . ويسر لي أمري } [43]
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : " اللهُمَّ ! أصلح لي ديني الذي هو عصمةُ أمري ، وأصلح لي دُنياي التي فيها معاشي ، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي ، واجعل الحياةَ زيادةً لي في كلِّ خير ، واجعل الموتَ راحةً لي من كُلِّ شر " [44]
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :" اللهمَّ إني أعوذُ بكَ من الهمِّ ، والحَزَنِ ، والعجزِ ، والكسلِ ، والجُبنِ ، والبُخلِ ن وضلعِ الدَّينِ ، وغلبةِ الرِّجال " [45]
فلا تشتكي للمخلوق ، فإنه حبيب فتحزنه عليك أو عدو فتشمته فيك ، وافزع لمن يسمع الداعي ويجيب المنادي ، ويغيث الملهوف ، وينفِّس عن المكروب ، ويُسري عن المحزون .
{ أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء } [46]؟!
غنيٌ بدون مال :

القناعة ، وعدم الانشغال بالدنيا ، واللهث وراءها ، والمطاردة لمتاعها .
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس " [47]
وما أسعد من ليس له أو عليه لأحدٍ من الخلق شيئاً !
أفادتني القناعة كلَّ عزٍّ وأيُّ غنى أعزَّ من القناعة
فصيِّرها لنفسك رأس مال وصيِّر بعدها التقوى بضاعة
ولن يشبع الإنسان من حطامها الرخيص ومتاعها الخسيس ، ولو أعطي كلَّ ما عليها من متع و متاع.
عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :" لو كان لابن آدم واديان من مال ، لابتغى ثالثاً ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلاَّ التراب ، ويتوب الله على من تاب " [48]
فالقناعة كنزٌ لا يفنى ، وعينٌ لا تنضب ، وقوَّة ـ بإذن الله ـ لن تُغلب .
عن عبد الله بن عمرو ـ رضي الله عنهما ـ أنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :" قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافاً ، وقنَّعه الله بما آتاه " [49]
إنَّ القناعة من يحلل بساحتها لم يلق في ظلها همَّاً يؤرقه
" قال رجاء بن أبي سلمة : قلت للرجل الصالح حسان بن أبي سنان : أما تُحدِّثك نفسك بالفاقة وتخوفك من الفقر ؟
قال : بلى . قلت : فبأي شيء تردها ؟
قال : أقول لها : وافترضي أن ذلك قد كان ، الأمر بسيط : تأخذين المسحاة فتجلسين مع الفعلة ـ العمال ـ فتكسبين دانقاً أو دانقين تعيشين به ، فتسكن " [50]
رأس الخطايا وأُسُّ البلايا :

معرفة حقارة الدنيا ، وأنها ظل زائل ومتاعٌ راحل ، فحبُّ الدنيا رأس كل خطيئة وأساس كلّ بليَّة !
عن سهل بن سعد ـ رضي الله عنه ـ قال : كنا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذي الحُليفةِ ، فإذا هو بشاة ميتة شائلة برجلها ، فقال : " أترونَ هذهِ هيِّنةً على صاحِبها ؟ فوالذي نفسي بيده ! للدُّنيا أهونُ على الله ، مِن هذِهِ على صاحِبها ، ولو كانت الدُّنيا عندَ الله جَناحَ بعُضةٍ ، ما سقى كافِرًا مِنها قطرة أبدًا " [51]
فلماذا نحزن عليها وهي حقيرة ؟!
أُفٍ لنا ما أعجزنا ! كيف نحزن على الهيِّن ، ونأسف على الدني ؟!
" بينما رجل في بستان بمصر مكتئباً معه شيء ينكت به الأرض ، إذ رفع رأسه فسنح له صاحب مسحاه ، فقال له : يا هذا ما لي أراك مكتئباً حزيناً ؟ قال : فكأنه ازدراه ، فقال : لاشيء ؟ فقال صاحب المسحاه : أللدنيا ؟! فإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، والآخرة وعدٌ صادق ، يحكم فيها ملك قادر ، يفصل بين الحقِّ والباطل " [52] فسُرِّي عنه ، ونسي ما أهمَّه وأغمَّه .
فالدنيا لا تستحق منا أن نحزن عليها أو نشقى من أجلها أو نأسف على فواتها .
قال تعالى : { فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور } [53]
دار البلاء وموطن العناء :

معرفة حال الدنيا وأنها دار بلاءٍ وامتحان ، وموطن بلايا وأحزان .
قال تعالى : { لقد خلقنا الإنسان في كبد } [54]
فهو في مكابدة ومجاهدة ، ومغالبة ومجالدة حتى يخرج منها فيرتاح من عنائها إذا حقَّت له رحمة الله ووجبت له مغفرته .
طبعت على كدرٍ وأنت تريدها صفواً من الأكدار والأضرار
ومكلِّف الأيام ضدَّ طباعها متطلب في الماء جذوة نار
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنَّة الكافر " [55]
وأنَّى لمن كان في سجنٍ أن يكون له تمام السعادة وكمال البهجة ؟! وخصوصاً من كان أسير هواه ، سجين شهواته ، حبيس نزواته !
" كان سهل الصعلوكي الفقيه الخراساني الحنفي ممن جمع رئاسة الدين والدنيا ، خرج عليه يوماً وهو في موكبه في مسخن حمام يهوديٌّ في أطمار سجم من خانه ، فقال : ألستم تروون عن نبيكم ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ؟ وأنا عبد كافر وترى حالي ، وأنت مؤمن وترى حالك ، فقال له على البديهة : إذا أنت صرت غداً إلى عذاب الله كانت هذه جنتك ، وإذا صرت أنا إلى نعيم الله ورضوانه ، كان هذا سجني . فعجب الخلق من فهمه وبراعته " [56]
هيَ الدارُ دارُ الأذى والقذى ودارُ الفناءِ ودارُ الغِيَر
فلو نِلتَها بحذافيرها لَـمُتَّ ولم تقضِ منها الوطَر [57]
كم في الزوايا من رزايا !

رؤية أهل البلايا ، والوقوف على أحوال أصحاب المصائب والمصاعب ، والمحن والفتن في المستشفيات والسجون ودور الإعاقة ومستشفيات النقاهة والأمل ، وما يحدث في المحاكم ودور القضاء ، ليرى كم لديه من نعم سُلبت من غيره ، وكم لله عنده من آلاء لا يحصيها العاد ، ولا ينتبه إليها الغافل ، ولا يحس بها إلاَّ من فقدها أو رأى من حُرم منها .
فأي رضا ينبعث في القلب وطمأنينة تسلل إلى النفس من رؤية تلك المشاهد المحزنة والمناظر المؤلمة ؟!
ولا يدرك قيمة الشيء إلاَّ فاقده ، ولا يزهد به إلاَّ واجده ، فالسعادة تاجٌ على رؤوس السعداء لايراه إلاَّ الأشقياء !
المرءُ من مصائبٍ لا تنقضي حتى يُوارى جمُه في رمسِهِ
فمُؤجَّل يلقى الردى في أهله ومُعجَّل يلقى الردى في نفسه
" جاء رجل إلى يونس بن عُبيد ، فشكا عليه ضيقاً من حاله ومعاشه واغتماماً بذلك ، فقال : أيسرُّك ببصركَ مائة ألف ؟ قال : لا . قال : فبسمعك ؟ قال : لا . قال : فبلسانك ؟ قال : لا . قال : فبعقلك ؟ قال : لا .
وذكَّره نعمَ الله عليه ، ثم قال يونس : أرى لك مئين ألوفاً وأنت تشكو الحاجة ؟! " [58]
نظرة إلى تحت :

النظر إلى من هو أسفل منك في أمور الدنيا ، لتقطع على الطمع الطريق ، فستقر النفس ، ويرتاح القلب ، ويُسعد الخاطر .
فمن رأى من هم أقل منه حالاً ، وأنه خير من كثير من النَّاس ، رضي بحاله ، وسكنت نفسه ، وقد أحسن من قال : حزنت يوماً لأني مشيت حافي القدمين ، لكن حزني تبدد عندما رأيت رجلاً يمشي مقطوع القدمين
من شاء عيشاً هنيئاً يستفيدُ به في دينه ثم في دنياه إقبالا
فلينظرن إلى من فوقه أدباً ولينظُرنَّ إلى من دونه مالا [59]
عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" انظروا إلى من هو أسفل منكم ، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم ، فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم " [60]
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إذا نظر أحدكم إلى من فُضِّل عليه في المال والجسم ، فلينظر إلى من دونه في المال والجسم " [61]
قال عون بن عبد الله : صاحبت الأغنياء فلم أرى من الناس أكبر هماً مني ، أرى دابة خيراً من دابتي ، وثوباً خيراً من ثوبي ، وصحبت الفقراء فاسترحت .[62]
إذا شئت أن تحي غنيَّاً فلا تكن على حالة إلاَّ رضيت بدونها