الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فما منا من أحد إلا وله من قدح فيه أو تعدى عليه أو تعرض له ، فمن يطمع بالسلامة من الخلق ، والخالق سبحانه لم يسلم منهم ؟! فما من أحدٍ أوذي أكثر من الله ، ويكفي أنه خلقهم ويعبدون غيره ، ورزقهم ويشكرون سواه ، ودبر أمرهم ويتسخطون قدره ويتعرضون لله بالأذى ، فما قطع رزقه عنهم ، وما عاجلهم بعقوبته لهم ، فسبحانه على صبره وحلمه بعد قدرته وعلمه !!

وما من أحد من الخلق أوذي أعظم من سيد الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومع ذلك فهو الصابر على الأذى ، فلم يكن ليغضب لنفسه فضلاً عن أن ينتقم لها !

والأنبياء عانوا من صنوف البلاء وضروب العناء من السفلة الدهماء ما يفوق الوصف والخيال ، فما سمعنا عن أحد منهم أنه انتقم لنفسه أو عاجل الخلق بدعوته أو بادر معاديه بحربه وسطوته ، وإنما أمهلوهم ، وصبروا عليهم ، ولانوا لهم ، ولم ينالوا منهم ، لينقذهم الله من النار بهم ، فصلى الله على الأنبياء والمرسلين ، وحشرنا في زمرتهم يوم القيامة والدين .

وعلى طريق الخير سار أصحاب معلم الناس الخير ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكانوا السادة والقادة بما بذلوا من دمائهم وأموالهم وأعراضهم وما يملكون لدينهم ، وآثروا الآخرة الباقية على الدنيا الفانية ، ولهم في ذلك مآثر ومفاخر ، يطول الوصف لها والحديث عنها .

وحسبي في هذا المقام أن أذكر عبرة واحدة من عبرهم ومزيد فضلهم وترادف بذلهم لدينهم وآخرتهم ، وما ظنك بقوم تصدقوا بما يملكون مما في أيديهم ، ثم لما انتهى ما باليد ، تصدقوا بأعراضهم لله يرجون تجارة لن تبور ، ويكفيك في هذا أن تقرأ هذا الخبر :
فعن علبة بن زيد ـ رضي الله عنه ـ أنه قام من الليل يصلي ، فتهجد ما شاء الله ، ثم بكى ، وقال : اللهم إنَّك أمرت بالجهاد ورغَّبت فيه ، ثم لم تجعل عندي ما أتقوَّى به ، ولم تجعل في يد رسولك ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما يحملني عليه ، وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض . وأصبح الرجل من الناس ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أين المتصدق هذه الليلة ؟ " . فلم يقم أحد ، ثم قال :" أين المتصدق ؟ فليقم " . فقام إليه فأخبره . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أبشر ، فوالذي نفسي بيده لقد كتبت في الزكاة المتقبلة "
(فقه السيرة ـ للغزالي ـ بتحقيق الألباني ، وقال عنه : صحيح . ص 405 )

وعن قتادة ـ رضي الله عنه ـ قال : أيعجز أحدكم أن يكون مثل أبي ضيغم ـ أو ضمضم ـ كان إذا أصبح ، قال : اللهم إني قد تصدقت بعرضي على عبادك .
( صحيح سنن أبي داود 4087 )

فهل يكفيك هذا لتسامح من جرحك أو تغفر لمن ظلمك أن تعطف على من حرمك ؟!

إنها صدقة لا تحتاج إلى مال ؛ فتبخل ، ولا إلى جهد ؛ فتكسل ، ولا إلى شجاعة ؛ فتجبن ، ولا إلى قوة ؛ فتضعف ، وإنما يحتاج إلى قوة إيمان ، ويقين بما عند الله رب العالمين ، وثقة بالأجور من العزيز الغفور ، ثم لا تسل عن قلبك ما أسلمه ! وصدرك ما أفسحه ! ووقتك ما أبركه ! وعملك ما أكثره وأكبره !!