إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضل فلا هادِي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرا.
من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فلن يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئا،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾
اتقوا الله الذي تتعاقدون به وتتعاهدون عليه واتقوا الأرحام واتقوا العهود والعقود أن تغدروا بها واتقوا الأرحام أن تقطعوها فإن الله جمع بين هذين الأمرين في قوله: ﴿ الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ﴾ [الرعد:21]
ثم قال الله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾
أيها الناس: إنما هما القول والهدي فأحسن الكلام كلام الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون: ونحن في زمن مسارعة إلى الخيرات ومسابقة إليها ومنافسة فيها فإن ذكر سير الصالحين ممن لهم في ذلك قصب السبق يحيي القلوب المريضة أو المترددة ويهدي العقول المتحيرة ويشد الهمم الفاترة فإن سيرهم جند من جند الله وما يعلم جنود ربك إلا هو.
ونذكر في هذه العجالة سيرة رجل ما خلق الله بعد الأنبياء أشرف ولا أحرص على الخير منه، إنه عبد الله بن عثمان أبو بكر الصديق - رضي الله عنه -، وأنى لسيرة هذا الرجل أن تحتوي هذه الدقائق؟ وإنما هي إلماحات تدل على ما ورائها، هو الصديق الأكبر صديق هذه الأمة.
- رضي الله عنه - أعطاه الله من كل خير أكمله فأعطاه الله حسن الخلق، كان - رضي الله عنه - قد جمع الله فيه خلال الخير فكان حتى في الجاهلية رجلا سمحا سهلا مألوفا محبب إلى قومه، وكان مقصودا يأتيه الشباب والشيب في بيته ويحبون مجالسته لكرمه وسماحة نفسه ومحبته لضيفانه حتى إنه كان في الإسلام يشبه بإبراهيم - عليه السلام -، ولما ساق الله إليه الخير وأسلم استغل هذا في الدعوة إلى الله استغل أنه مقصود من شباب قومه فدعاهم إلى الإسلام فأسلم على يده من الجلة الأكابر عدد كثير منهم كثير من العشرة - رضي الله عنهم – وأرضاهم.
وأعطاه الله شجاعة فائقة التي لا يفوقه فيها إلا الأنبياء لا يبلغه عمر ولا علي ولا غيرهما، فإن شجاعته أيها الأخوة عند الخبراء بها ليست عن قوة البدن فرب قوي البدن ضعيف القلب، وليست عن كثرة القتل والطعن والضرب ليست هذه الشجاعة فقط، فرب رجل مسرف في الدماء وهو من أضعف خلق الله وأذلهم وقد رأينا ذلك بأعيننا ولو كانت عن كثرة القتل لكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أولى بذلك، فإنه أشجع ولد آدم ولم يقتل بيده إلا رجلا واحدا في أُحد ولم يضرب بيده امرأة ولا صبي ولا عبدا قط وكان الله قد بارك في مغازيه فحققت مقصود الجهاد ولم يقتل فيها من أنفس الكفار إلا عددا قليل بضع مئات نصفهم في قريظة وهذه من البركة أن يحقق المقصود بالثمن القليل، إنما الشجاعة عند أهلها هي ثبات القلب وإقدامه ونفوذه وتصميمه ورباطة الجأش هذه هي الشجاعة، كانت في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمكان الأعلى، ألم تروه في حنين وقد فر أصحابه عنه؟ والعدو يريده هو بالذات فيقدم على بغلة والبغلة لا تكر ولا تفر ويضرب بها في نحور أعدائه ويرفع هامته ويصيح بأعلى صوته أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، يدفع بها في نحور أناس لا يريدون إلا هو وإلا قتله، أرأيتم معنى الشجاعة؟ ألم تروه في أُحد أيضا؟

ألم تروه كما في صحيح البخاري أن أهل المدينة سمعوا صوتا خافوا منه فلما خرجوا إلى مصدر الصوت وإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد استقبلهم ذهب إلى ذلك الهول لوحده على فرس لأبي طلحة عري ليس عليه سرج، فذهب إلى مصدر الخوف والرعب وحده ثم رجع وقد استقرأ الخبر وهو يقول: ((لم تراعوا لم تراعوا)).
ثم كان بعده الصديق، في هذا في المكان الذي لا يبلغه أحد من الصحابة فقد أعطاه الله من ثبات القلب ونفوذه وتصميمه ورباطة الجأش ما لم يعطيه أحدا ولذلك كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يستصحبه في الأماكن المخوفة التي يراد فيها قتله هو بالذات كما استصحبه ليلة الغار وكما استصحبه في العريش يوم بدر فكان الكفار يريدون قتله والوصول إليه ولم يكن معه في العريش إلا أبا بكر - رضي الله عنه –.
ثم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر للعالمين شجاعة هذا الرجل الفائقة التي لا يبلغها أحد، لما مات النبي - صلى الله عليه وسلم - وقع الصحابي في القيام في الصغرى في نسخة القيامة، أتاهم أمر عظيم فهذا ينكر أنه مات، وهذا أُقعد وهذا دهش ما يدري من يمر عليه، وكان الصديق غائبا فلما جاء هذا الرجل قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: ((أما الميتة التي كتبها الله عليك فقد متها يا رسول الله طبت حيا وميتا))، ثم خرج على الناس فثبتهم وقواهم وشجعهم وذكرهم بكلام الله.
ثم لما اختلفوا في موته - صلى الله عليه وسلم - بين لهم الأمر.
ثم لما اختلفوا في الإمارة كما في السقيفة كان له من الموقف الأعظم الشجاعة ورباطة الجأش ما أنقذ الله به الأمة.
ثم لما جادلوه في إنفاذ جيش أسامة لم يكن بالمتردد قال: ((والله لا أحل لواءا عقده رسول الله بيده - صلى الله عليه وسلم -)).
ثم لما جادلوه في قتال أهل الردة عمر فمن دونه كان في رباطة الجأش قال: ((والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يعطوه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه)).
ومن قرأ حروب الردة رأى من سجل شجاعة هذا الرجل الفائقة التي لا تعرف عند العرب ومن حزمه في الأمور ومن معرفته بالحرب ومن إعداده للأمور مواضعها أمرا عجيبا - رضي الله عنه - كان الله رزقه الشجاعة القلبية والشجاعة الإيمانية، شجاعة التوكل على الله واليقين به واليقين بوعده وإذا اجتمعت هاتين في القلب فما أحسنهما، كما كان إبراهيم - عليه السلام - راغ إلى قومه فكسر أصنامهم وكان سخيا لما جاءه الضيفان راغ إلى أهله فجاء بعجل حنيذ، عليهم صلوات الله وسلامه ما أحسن سيرهم، وهكذا من تشبه بهم فإن علماء هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل.
أيها الأخوة: وأما جوده وسخاءه وسماحة نفسه وإنفاقه فأمر يزري بالكرم نفسه ويختل الكرماء والأجواد أن يقارنوا أنفسهم به، من الذي يستطيع أن يخرج من ماله كله مرات لا لقرابة ولا حياء ولا مصانعة ولا مصلحة، صدق الله فيه ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى ﴾ [الليل/21] لسوف يرضى أبو بكر، هذه نزلت فيه وفيمن كان مثله، فإن الله يحب العبد السخي الجواد، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون.
روي أن الله قال لإبراهيم: ((يا إبراهيم إنما اخترتك للرسالة لأني وجدتك تحب أن تعطي أكثر من أن تحب أن تأخذ))، وهذه صفة عظيمة يحبها الله - عز وجل - وقد اتصف الله بها على أكمل وجه.
كان الصديق في السماحة والجود بمكان اتفق أهل الإسلام أنه لم يبلغه أحد لا في الجاهلية ولا في الإسلام في جوده وسخائه حاشا أنبياء الله، ولذلك قال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند موته: ((ما من أحد منكم له يد عندنا أو نعمة إلا جزيناه عليها حاشا أبا بكر فإن له عندنا نعم كثيرة لم نجزه بها الله يجزيه عليها))، ما من أحد من الصحابة إلا جازاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على معروفه بمعروف إلا الصديق فإن له معاريف كثيرة لم يجزيها عليها الله يجزيه بها وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((ما نفعني مال قط كما نفعني مال أبي بكر))، ما نفعني مال قط كما نفعني مال أبي بكر، ((واساني بنفسه وماله)) خرج في الهجرة من ماله كله يقول أبوه لبنياته: أني أظن أنه فجعكم بماله كما فجعكم بنفسه، فوضعت بناته حجرا وغطوه وكان أبوه ضريرا وألمسوه وقالوا ترك لنا شيئا قال: إن ترك لكم هذا قد ترك لكم شيئا صالحا
وكان يشتري المسلمين المماليك ويعتقهم فيقول أبوه: يا بني أني أراك تشتري أنفسا ضعافا لا ينفعونك فلو اشتريت أعبدا جلدة؟ قال يا أبي: ((أني أريد غير الذي تريد))، أني أريد غير الذي تريد.
لما سأله النبي - صلى الله عليه وسلم - ماذا أبقيت لنفسك يا أبا بكر؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، - رضي الله عنه - ولذلك كان معروفا حتى في الجاهلية بذلك.
لما آذوه قريش وخرج من مكة يسيح في أرض الله يعبد الله واجهه ابن الدغنة من شيوخ قبائل الساحل، فقال:(( إلى أين يا أبا بكر)): قال: ((أعبد ربي فقد آذاني قومي))، قال: ((يا أبا بكر مثلك لا يخرج من بلده، إنك والله لتحمل الكل وتكسب المعدوم وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق))، كما قالت خديجة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - والحديث في الصحيح، فتشابها وكان أشبه الناس به - صلى الله عليه وسلم -.
وأما ورعه فماذا نقول؟ هو الذي لا يدخل جوفه طعاما حتى يدري من أين أو مالا حتى يدري من أين، يتوقى حتى يسهل عليه حساب غدا، إلا مرة واحدة، جاءه أجد مماليكه بطعام فوافق جوعا عنده فأكل الطعام أو شيئا منه فقال له المملوك: أتدري مما هذا؟ تكهنت لرجل كهانة في الجاهلية ولم أكن أحسن الكهانة فوفاني حقي اليوم فاشتريت به هذا، فقام الصديق وأدخل يده في فمه وأخذ يتقيأ مع أن ما قبض واستهلك بتأويل معفو عنه ولكنه الصديق، أخذ يتقيأ حتى أخرج ما بجوفه كله وقال ((والله لو لم يخرج إلا مع نفسي لما باليت))، يتوقون ألا تنبت اللحوم على السحت.
وأما زهده: في الدنيا فأمر عجيب، لم تكن الدنيا له على بال، كانت الآخرة هي بين عينيه.
وأما علمه: فلم يكن بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعلم منه البتة ولم يختلف الصحابة في عهده أبا وإنما بدأ اختلافهم في مسائل الفرائض والفروع في عهد عمر فمن بعده، أما الصديق فلم يختلفوا، فإنه كان لكمال علمه لا يدع مجال للخلاف حتى يبين لهم الحق في ذلك وقد وكله النبي - صلى الله عليه وسلم - على إقامة المناسك للمسلمين والمناسك من أغمض أبواب العبادات ولم يكن رأى منسكا قبل لم ير النبي يحج قبل ذلك ولكن ثقة من النبي - صلى الله عليه وسلم - في فقه هذا الرجل وفهمه وعلمه لقول الله - عز وجل -، أمره أن يحج بالناس وهو لم ير الحج في الإسلام، وأمره أن يصلي بالناس في حياته - صلى الله عليه وسلم - وهل أعظم من الصلاة والحج؟ ومن تأمل اختياراته وترجيحاته وفقهه رأى عمقا لم يبلغه أحد من العلماء - رضي الله عنه -.
وأما صدقه: فهو الصديق وكفى، هو صديق هذه الأمة، ﴿ وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [الزمر:33] صادق مسدد، صادق لا يقرأ النفاق له على بال لا في حديث ولا في وعد ولا في عهد ولا في أمانة ولا في شيء، صادق في عمله وفي قلبه وفي قوله - رضي الله عنه -.
وأما اليقين: فماذا تقول؟ أليس القائل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم العريش: ((يا رسول الله كفى مناشدتك ربك فوالله لينجزن الله لك وعد)) ه، والله لينجزن الله لك وعده، إنه اليقين التام والتصور التام والثقة فيما عند الله - عز وجل -، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - كما قص الله علينا: ﴿ إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ ﴾ أولى الناس بهذا الوصف أبو بكر - رضي الله عنه - هو الصاحب الحقيقي ﴿ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ﴾ [التوبة/40]،
كان أبو بكر يخاف على رسول الله لا يخاف على نفسه ولذلك كان يمشي مرة أمامه ومرة خلفه خوفا عليه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟
ولذلك كان الرافضة عند أهل الإسلام من أسخف الناس عقولا وأفسدهم مذهبا الذي يلعنون أبا بكر، لو قيل لليهود: من خير أهل دينكم؟ لقالوا أصحاب موسى، ولو قيل للنصارى من خير أهل دينكم ؟ لقالوا أصحاب عيسى، ولو قيل للرافضة من الأنجاس الأرجاس المرتدون؟ لقالوا أصحاب محمد، عليهم من الله ما يستحقون.
قال مالك - رضي الله عنه ورحمه-: ((إنما يريدون الطعن في النبي - صلى الله عليه وسلم - حتى يقال هذا الرجل له أصحاب سوء فهو رجل سوء فإن الرجل على دين خليله))، ونحمد الله أن عافانا بما بلاهم به فإنهم لا يجتمعون معنا لا في أصل ولا في فرع.
أيها الأخوة: وأما المقصود في هذه الأيام فمسارعة أبو بكر للخيرات، كان أبو بكر قد أصلح الله له قلبه وجعل الآخرة بين عينيه فلا يفتح باب من أبواب الخير إلا رأيته سباق لذلك لا يتلكأ ولا يتردد، طوبى لمن تشبه به في ذلك، فإن العبد إذا كانت الآخرة همه كان ذا بال إلى أمور الخير، لا يفتح باب إلا بادر إليه.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - يوما لأصحابه: ((من أصبح منكم اليوم صائما؟ قال أبو بكر: أنا أصبحت صائما يا رسول الله، قال: من عاد منكم اليوم مريضا؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله، سمعت أن أخي عبد الرحمن بن عوف مريض فجعلت طريقي عليه إلى المسجد))، انظروا كيف السماحة وعدم التعمق والحرص على الخير؟ جعل الطريق عليه وهو ذاهب إلى المسجد فعاده وكسب الأجر وهو ذاهب إلى المسجد، ((قال: من تصدق منكم اليوم على مسكين؟ قال أبو بكر: أنا يا رسول الله، وجدت مسكينا على باب المسجد وبيد ابني عبد الرحمن كسرة خبز فأعطيته إياه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما اجتمعت في عبد إلا أدخله الله الجنة))، فاز بها أبو بكر - رضي الله عنه -، بل ليس من باب واحد، يدعى الناس من أبواب الجنة التي اجتهدوا في الخير الذي فيها إلا الصديق فإن كل ملائكة باب يدعونه ويقولوا من هنا من هنا لأنه كان في كل باب من أبواب الخير كأنه لا يحسن إلا هو - رضي الله عنه -.
فيا إخواني: هذا الرجل يُحب فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحبه حبا عظيما وقال: ((والله لولا أن الله اتخذني خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ولكن أخوة الإسلام ومودته)).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يغضب له ويغار له ويحزنه ما يحزنه، حصل بينه وبين عمر فلاحاه، فأغلظ له أبو بكر وكان رجلا فيه حدة فلما ذهب عمر ندم أبو بكر فلحق بعمر وطلب منه أن يستغفر له فأبى عمر بقي في نفسه شيء فجاء أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ ثوبه بيده فلما رآه النبي - صلى الله عليه وسلم - مقبلا: ((قال أما صاحبكم هذا فقد غامر)) يعني جاءه شيء يشحنه قال يا رسول الله ((إنه وقع بيني وبين عمر ملاحاه وندمت وطلبت منه أن يستغفر لي فلم يفعل)) فلما جلس ندم عمر وهو من طيبه وطيب قلبه فبحث عن أبي بكر فجاء إليه وهو عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما أقبل أخذ وجه رسول الله يتغير ويتمعر غضبا لأبي بكر وغيرة له، هذا هو الحب، حتى خاف أبو بكر على عمر وقال: ((يا رسول الله والله أنا كنت اظلم)) والله أنا كنت أظلم خشية أن يقول في عمر شيئا يضره، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أيها الناس: إني قد جئتكم وقلت أنا رسول الله فقلتم كذبت وقال أبو بكر صدقت، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟)) فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟ فما أوذي بعدها قط.
فتشبهوا به فإن الرجل إذا أحب الرجل حاول أن يتشبه به وأن يلحق به، كان العلماء يشبهونه بالطير فإن الطير في جو السماء تراه فوق رأسك ثم في طرفة عين فإذا هو قد غاب في الأفق الشرقي أو الغربي ينقطع دونه السراب، وهكذا أبو بكر تراه ثم ينقطع بينك وبينه السراب.
حاول عمر أن يلحق به فانقطع وأعيا وعجز فما بالك بغيره؟ لكنك إذا أحببته تشبهت به وأيضا فإن المرء مع من أحب، يقول أنس: ((والله ما فرحنا بعد الإسلام فرحنا كفرحنا بهذا الحديث))، قال أنس:(( فوالله إني أحب رسول الله وأبا بكر وعمر وأرجو أن أكون معهم وإن لم أعمل بأعمالهم)).
اللهم ارزقنا حبه وحب أصحاب نبيك - صلى الله عليه وسلم - وارزقنا حبك وحب رسولك وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم اجعل الآخرة بين أعيننا واجعلنا من المسابقين في الخيرات، اللهم اجمعنا بهم في دار كرامتك، اللهم لو لم يكن في الجنة من النعيم إلا رؤية وجهك ومصاحبة أمثال هؤلاء لكفى فلا تحرمنا ذلك بذنوبنا، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.