الحمد لله الباسط القابض ، الرافع الخافض ، والصلاة والسلام على خير الأنام ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فكم منا من يخطىء على غيره بسببٍ وبغيره !
والعجيب أنه مع كثرة الأخطاء والخطايا ، وكثرة المجروحين والمتألمين ، وكثرة الآلام والحسرات في قلوبنا من بعضنا إلا أنك تعاني من قلة المعتذرين لبعضهم ، وندرة الراجعين عن أخطائهم !
فلماذا يسهل إغماد السيوف في الخواصر ، ويصعب نزعها ؟!
لماذا يهون علينا أن نجرح غيرنا ، ويصعب علينا أن نداوي تلك الجراح ؟!
لماذا لا نحتمل من غيرنا أن يخطىء علينا ، ونحن من نمارس ما نكرهه مع غيرنا ؟!
لماذا نستعظم ما يأتي إلينا ، ونحتقر ما يصدر عنا ؟!
هل هو الكبر والتعالي ؟ أم الآمبالاة بمشاعر الناس ؟ أم سوء التربية ؟ أم هي القسوة التي ذهبت بتلك المشاعر والعواطف ؟ أم هو الجهل بدين الله الذي صان الكرامات ، وحفظ الحقوق ، ورعى الأحاسيس ؟
أم هذه الأسباب جميعاً ؟ أم أن هناك غيرها ....
الحقيقة أننا قد نقصّر كثيراً في تربية أنفسنا مما يدعونا لمثل تلك الزلات من الناس ، ولو تأملنا ماذا فعل سيد الخلق ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الخلق لوجدنا مكمن الخلل وموطن الزلل في نفوسنا التي أبت علينا الرجوع إلى الحق والانقياد له والدوران معه حيث دار ، وتأمل ، تعجب !
فعن حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عدّل صفوف أصحابه يوم بدر، وفي يده قدحٌ يعدل به القوم ، فمر بسواد بن غَزِيَّة وهو مُستنتلٌ من الصف ، فطعن في بطنه بالقدح ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم : " استَوِ يا سواد " فقال: يا رسول الله ! أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل ، فأقدني . قال : فكشف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن بطنه ، وقال ـ صلى الله عليه وسلم :"استَقِد " . قال : فاعتنقه فقبَّل بطنه ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم :" ماحملك على هذا ياسواد ؟ " قال : يا رسول الله ! حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك : أن يمسَّ جلدي جلدك ! فدعا له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بخير. 1
هل تكفيك هذه ؟!
فخذ هذه أيضاً !!
فعن أسيد بن حضير ـ رضي الله عنه ـ قال : بينما هو يحدث القوم وكان فيه مزاحٌ ، بينا يضحكهم فطعنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خاصرته بعود : فقال : أصبرني ـ يعني ؛ مكني من أن آخذ لنفسي وأستوفي حقي بالقصاص منك ، وذلك بأن أطعنك في خاصرتك كما طعنتني ـ فقال :" اصطبر " .قال : إن عليك قميصا ، وليس عليَّ قميص . فرفع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن قميصه ، فاحتضنه ، وجعل يقبل كشحه . قال : إنما أردت هذا يا رسول الله .2
وهل تكفيك هذه أيضاً ؟! فخذ هذه الثالثة ..
عن عبد الله بن أبي بكر عن رجل من العرب ، قال : زحمت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يوم حنين ، وفي رجلي نعل كثيفة ، فوطئت على رجل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنفحني بسوط في يده ، وقال :" بسم الله ، أوجعتني " .
قال : فبتّ لنفسي لائماً ، أقول : أوجعتُ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فبت بليلة كما يعلم الله ، فلما أصبحنا إذا رجل يقول : أين فلان ؟ قال : قلت : هذا والله الذي كان مني بالأمس . قال : فانطلقت وأنا متخوف ، فقال لي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إنّكَ وطئتَ بنعلك على رجلي بالأمس فأوجعتني ، فنفحتك بالسوط ، فهذه ثمانون نعجةً فخًذها بها " 3
فهل ـ بعد هذا ـ سترفع عن قلبك رداء الكبر والتعالي ، لتمكن من أخطأت عليهم من نفسك ، ليقتصوا منها ، فتسلم من شرِّها ، وتنجو من القصاص في يوم القيامة ، عندما تقتص الشاة الجلحاء من القرناء ، أم سيتمادى بك الحال فيما يسؤوك أن تراه في عاقبة المآل ؟!
أم أن الناس كلهم مجرمون مخطئون ، وأنت البريء الوحيد !؟
1 أخرجه ابن إسحاق في السيرة وأبو نعيم في معرفة الصحابة ، انظر: السلسلة الصحيحة (6ـ 2/808) (2835) .
2 صحيح سنن أبي داود (3/981) (4352) .
3 أخرجه الدارمي ، انظر السلسلة الصحيحة (7ـ1 /93 ) (3043) .