الحمد لله الخبير القدير ، والصلاة والسلام على البشير النذير ، وأشهد أن لا إله إلا الله السميع البصير ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله السراج المنير ، أما بعد :*
فإن الشهداء في أمَّة الإسلام كثير ، ولو شاء الرجل أن يعدّهم لعجز ، فلا يحصيهم إلا الله تعالى ، مع أن الناظر في واقع الحال يرى أن الشهداء أقلّ من القليل ، وهذا الفهم المغلوط يأتي من الجهل المطبق بدين الإسلام وما فيه من أحكام .*
والحق الذي لا مرية فيه أن الشهداء في الإسلام لا يحصيهم ديوان ، لتعدد الأسباب التي تؤول بالعبد إلى الوصول لمرتبة الشهادة ، والحصول على ثوابها الجزيل . *
وقبل أن ندلف للدخول في موضوعنا ، نقول : بأن الشهادة تنقسم إلى قسمين ؛ شهادة كبرى ، وصغرى . *
فالكبرى هي : الشهادة في سبيل الله تعالى في أرض القتال والنزال مع أعداء الملّة ، وهذه المرتبة السامية والمنزلة العالية لمن صدق مع الله في نيّته وعزيمته ، فمضى لميادين الوغى وساحات الفداء ، بعد أن باع نفسه من الله ، يرجو تجارة لن تبور مع العزيز الغفور ، فتلقاه ربّه بالقبول الحسن ، واصطفاه لنيل الشهادة ، فختم له بخاتمة السعادة . *
وهم من قال فيهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن للشهيد عند الله سبع خصال : أن يُغفر له في أول دُفعة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلَّى حُلَّة الإيمان ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاجُ الوقار ؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين ، ويُشفَّع في سبعين إنساناً من أقاربه " *
( رواه أحمد والطبراني بسند صحيح ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب (2/139ـ 1374) عن عبادة بن الصامت .*
والصغرى هي : ما دون ذلك مما عده الشارع الحكيم شهادة ، لكنه دون المرتبة الأولى ، وإليك بعض أولئك مع ذكر بعض الأدلة عليهم :*
فهم من مات بالطاعون ، والمبطون ـ بداء البطن كالاستسقاء ـ والغريق ، والحريق ، وصاحب الهدم ـ يموت تحت الهدم ، والمرأة تموت بالولادة ، ومن أصيب بذات الجنب ، والمسلول ـ من مات بداء السل ، واللديغ ، ومن مات دون دينه وماله وحقه وعرضه ونفسه .*
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما تعدون الشهداء فيكم ؟" قالوا : يا رسول الله ! من قتل في سبيل الله فهو شهيد . قال :" إن شهداء أمتي إذاً لقليل ! " قالوا : فمن يا رسول الله ؟ قال :" من قُتل في سبيل الله فهو شهيد ، ومن مات في سبيل الله فهو شهيد ،ومن مات في الطاعون فهو شهيد ، ومن مات من البطن فهو شهيد ، والغريق شهيد " *
( رواه مسلم في صحيحه ) *
وعنه ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" الشهداء خمسة : المطعون ، والمبطون ، والغريق ، وصاحب الهدم ، والشهيد في سبيل الله " *
( رواه البخاري ومسلم وغيرهما ) *
وعن راشد بن حبيش ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على عبادة بن الصامت يعوده في مرضه ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" أتعلمون من الشهيد من أمتي ؟! " *
فأرَمَّ القوم ، فقال عبادة : ساندوني . فأسندوه ، فقال : يا رسول الله ! الصابر المحتسب . فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن شهداء أمتي إذاً لقليل ، القتل في سبيل الله ـ عز وجل ـ شهادة ، والطاعون شهادة ، والغرق شهادة ، والبطن شهادة ، والنفساء يجرها ولدها بسرره إلى الجنة ، والحرق ، والسِّلُّ " *
( رواه أحمد بسند حسن صحيح ، انظر : صحيح الترغيب والترهيب [2/152ـ1397] ) *
وعن سعيد بن زيد ـ رضي الله عنه ـ قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول :" من قٌتل دون ماله فهو شهيد ، ومن قتل دون دمه فهو شهيد ، ومن قتل دون دينه فهو شهيد ، ومن قتل دون أهله فهو شهيد " *
( رواه أبو داود والنسائي والترمذي وابن ماجه بسند صحيح ) *
وعن سويد بن مقرن ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" من قتل دون مظلمته فهو شهيد " ( رواه النسائي بسند صحيح لغيره ) *
وكما رأيت فإن فضل الله عظيم ، فهو الذي خلق الداء وقدَّر على عباده الفناء ، وكتب لمن مات بهذه الأوصاف أن يمنحه أجر الشهادة ، فسبحانه ما أكرمه ! وأرحمه ! *
والمتأمل يرى أن تلك الميتات من أبشع وأشنع ما يموت عليه المرء ، ففيها الكثير من المعاناة والألم كمن تموت على ولدها حين ولادته ، ومنها ما هو حرمان من التوبة وإصلاح الوضع مع الله كمن يموت رديماً ، وفيها ما فيه فجيعة فظيعة كمن يموت دون أهله وماله أو بالغرق والحرق ، وفيها ما فيه طول معاناة واستمرار ألم ومقاساة كمن يموت بالسل أو الطاعون أو ذات الجنب ، وعلى أيِّ حال فالموت قادم مهما تعددت أسبابه وتنوعت أبوابه .
فهل نحن على استعداد للنقلة ليوم المعاد ؟ وهل لدينا الزاد ليوم الرحيل إلى ذلك اليوم الطويل والموقف المخزي الوبيل ؟!