الحمد لله الذي خلق فصور ، ثم أمات فأقبر ، ثم إذا شاء أنشر ، والصلاة والسلام على خير البشر ، وأشهد أن لا إله إلا الله الحي الذي لا يموت ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أما بعد :
فعذاب القبر حقٌّ واقع ، ليس له من دون الله دافع ، وهو يقع على الروح والبدن معاً بكيفية لا يعلمها إلا الله تعالى ، وبصورة لا يمكن الإحاطة بها ، فهي غيب محجوب عن الأنظار متواري عن الأبصار ، يقع على من كتبه الله عليه من الكفار وبعض عصاة المسلين إلى ما شاء الله ، وهو يقع عليهم سواء قبروا أم لم يقبروا ، ولو أكلتهم السباع ، أو مزقتهم الحيتان ، أو تخطفتهم الطير ، أو ذرتهم الرياح ، أو أكلتهم النيران !
والواجب المتحتم على كل مسلم أن يؤمن به ، ويحذر منه ، ويبتعد عن أسبابه ، ولا يتكلَّف في معرفته أو الوصول إلى كنهه ، أو التخيل له ، فهو غيب لا يرى ، ومن أعظم صفات المؤمنين أنهم يؤمنون بالغيب ولا يتكلفون في معرفة حقيقته .
والأدلة من كتاب الله تعالى ، ومن سنة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ متوافرة متظافرة تدل عليه ، وتخبر به ، وتحذر منه ، وتبين أسبابه ، وموجبات العقوبة به ـ عياذا بالله منه .
ومنها قول الله تعالى في سورة غافر :[ وحاق بآل فرعون سوء العذاب النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ]
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إذا مات الرجل عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فالجنة ، وإن كان من أهل النار فالنار "
( رواه مسلم وغيره )
وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال رسول الله ـ صلة الله عليه وسلم :" لولا أن لا تدافنوا لدعوت الله أن يسمعكم عذاب القبر "
( رواه مسلم )
و قد ندبنا الشارع إلى كثرة التعوذ بالله منه في مطلق دعواتنا وفي آخر صلاتنا ، فنعوذ بالله منه .
أما أسباب النجاة من عذاب القبر فكثيرة ، جمعت لك جملة منها ، عسى الله أن ينفعني وإياك بها .
فمنها : الصدقة والإنفاق في سبيل الله تعالى في وجوه الخير :
فعن عقبة بن عامر ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن الصدقة لتطفىء عن أهلها حرَّ القبور ، وإنما يستظلُّ المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته "
( أخرجه أحمد ، انظر : صحيح الترغيب 1/519 ـ 865)
ومنها : جملة من الأعمال الصالحة التي تتصور في القبر بأجمل منظر وأطيب ريح وأكمل صورة لتؤنس العبد المؤمن في قبره إلى يوم نشره وحشره
قال تعالى :[ ومن عمل صالحاً فلأنفسهم يمهدون ] قال مجاهد : في القبر .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إنَّ الميت إذا وضع في قبره ؛ إنَّه ليسمع خفق نعالهم حين يولون عنه ، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه ، وكان الصيام عن يمينه ، وكانت الزكاة عن شماله ، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه .
فيؤتى من قِبَلِ رأسه ، فتقول الصلاة : ما قِبَلي مدخل ، ثم يؤتى عن يمينه ، فيقول الصيام : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى عن يساره ، فتقول الزكاة : ما قبلي مدخل ، ثم يؤتى من قبل رجليه ، فيقول فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس : ما قبلي مدخل "
أحكام الجنائز (272) وصحيح موارد الظمآن (650)
وفي رواية ، قال :" يؤتى الرجل في قبره ، فإذا أتي من قبل رأسه دفعته تلاوة القرآن ، وإذا أتي من قبل يديه دفعته الصدقة ، وإذا أتي من قبل رجليه دفعه مشيه إلى المساجد "
صحيح الترغيب والترهيب (3561) .
ومنها : الموت مرابطاً في سبيل الله على ثغور المسلمين يدفع عنهم صولة الغادر وجولة الكافر :
فعن سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" رباط يوم وليلة كصيام شهر وقيامه ، وإن مات أجري عليه عمله ،وأمن الفتَّان " أي : فتنة القبر .
رواه مسلم
وفي رواية ، قال :" كلُّ ميت يختم له عمله إلا المرابط فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ، ويؤمن من فتَّان القبر "
رواه أبو داود والحاكم
ومنها : الشهادة في سبيل الله تعالى :
فعن قيس الجذامي ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن للقتيل عند الله ست خصال : يغفر له خطيئته في أول دفقة من دمه ، ويُجار من عذاب القبر ، ويُحلَّى حلَّة الكرامة ، ويرى مقعده من الجنة ، ويؤمَّن من الفزع الأكبر ، ويزوج من الحور العين "
وكفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة !
ومنها : الموت يوم الجمعة أو ليلتها ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، وليس كل من مات في هذا اليوم ينجو :
فعن ابن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" ما من مسلمٍ يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلاَّ وقاه الله فتنة القبر "
رواه الترمذي وأحمد ، وهو حسن لغيره .
ومنها : سورة الملك المنجية :
فعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ قال : يؤتى الرجل في قبره ، فتؤتى رجلاه ، فتقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل ؛ كان يقرأ عليَّ سورة الملك ، ثم يؤتى من قبل صدره ، أو قال : بطنه ، فيقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل ، كان أوعى فيَّ سورة الملك ، ثم يؤتى من قبل رأسه ، فيقول : ليس لكم على ما قبلي سبيل ، كان يقرأ بي سورة الملك ، في المانعة ، تمنع عذاب القبر ، وهي في التوراة سورة الملك ، من قرأها في ليلة فقد أكثر وأطيب "
( صحيح الترغيب والترهيب 1475 وهو ؛ حسن )
وهو في النسائي بلفظ :" من قرأ [ تبارك الذي بيده الملك ] كل ليلة ؛ منعه الله عز وجل بها من عذاب القبر .
وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم :" إن سورةً في القرآن ثلاثون آية شفعت لرجل حتى غُفر له ، وهي : [ تبارك الذي بيده الملك ] "
( صحيح سنن أبي داود 1265 ) .
ومنها : كثرة الاستعاذة بالله منه ، فإنه لا ينجي منه إلا الله تعالى ، وهو على كل شيء قدير ، وبالإجابة جدير ، نعم المولى ونعم النصير !!