بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال أبو العباس شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:( بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكاذب :إنه يرى أو لا يرى ، فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه، والله يقول :" سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلْسُحْتِ"..وما أكثر ما يقترن هذان) (الفتاوى ،25/ 131.).
وقد ابتلينا في عصرنا بمن انطبق عليه هذان الوصفان ثم تجده يتطاول على العلماء ولا يستحي، فأحببت أن أذب عن أعراضهم ، وأن أشارك في محاربة بدعة ربط الأمة بالفلكيين المنجمين في أمور دينها، فإن محاربة البدع وإرغام أهلها عبادة محبوبة لله،نرجو برها وذخرها عند الله، وشد ظهور أهل الحق والذب عنهم ومعاونتهم عبادة أخرى محبوبة لله نرجو برها وذخرها.
ولو كانت المسألة مما يسوغ في الاجتهاد لهان الخطب ولكن الأمر محسوم منذ عصر النبوة إلى يومنا.
قال الجصاص في أحكام القرآن: ( فالقائل باعتبار منازل القمر وحساب المنجمين خارج عن حكم الشريعة ، وليس هذا القول مما يسوغ الاجتهاد فيه لدلالة الكتاب ونصِّ السنة وإجماع الفقهاء على خلافه) (أحكام القرآن (1/280))
ومثله قول ابن تيمية: (فإننا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة ، وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث.
إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا ، وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم)(مجموع فتاوى ابن تيمية (ج 25/ ص 232 ـ 233)) .اهـ ثم ذكر أن الشيعة وضعوا جدولاً للشهور لدينهم.
وأحب أن أنبه إلى أني قرأت مقالاً للأخ /هيثم الحداد كفاني مؤنة كثير من البحث فاقتبست بعضاً منه هنا ، فأقول وبالله التوفيق والقبول:
هاهنا أمور في غاية الأهمية:
أولها: أن شهر رمضان الفلكي هو التاسع من السنة الهجرية، وبدايته ونهايته مردها إلى أمر واحد وهو الحسابات الفلكية، بينما شهر رمضان الشرعي مرده لأمور مختلفة أهمها: قبول إمام المسلمين بيوم ابتدائه ويوم انتهائه بناء على شهادة الشهود برؤية الهلال أو إكمال العدة ثلاثين، فإذا تقرر هذا علم أن ثمة مغايرة كاملة بين الشهرين، نعم قد يتفقان، وقد يختلفان، ولكن هذا لا يضيرنا في شيء، فأحكام شريعتنا متعلقة بشهر رمضان الشرعي المثبت بالشهود أو بالعدة، وقد بين الفرق بين الشهرين ابن تيمية رحمه الله فقال:
(وأصل هذه المسألة أن الله سبحانه وتعالى علق أحكاماً شرعية بمسمى الهلال والشهر كالصوم والفطر والنحر فقال تعالى (يَسْـئَلُونَكَ عَنِ ?لأهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَ?لْحَجّ)، فبين سبحانه أن الأهلة مواقيت للناس والحج، قال تعالى (كُتِبَ عَلَيْكُمُ ?لصّيَامُ) إلى قوله: شَهْرُ رَمَضَانَ ?لَّذِي أُنزِلَ فِيهِ ?لْقُرْآنُ هُدًى لّلنَّاسِ) أنه أوجب صوم شهر رمضان وهذا متفق عليه بين المسلمين، لكن الذي تنازع الناس فيه أن الهلال هل هو اسم لما يظهر في السماء وإن لم يعلم به الناس وبه يدخل الشهر، أو الهلال اسم لما يستهل به الناس والشهر لما اشتهر بينهم؟ على قولين: فمن قال بالأول يقول: من رأى الهلال وحده فقد دخل ميقات الصوم ودخل شهر رمضان في حقه وتلك الليلة هي في نفس الأمر من رمضان وإن لم يعلم غيره، ويقول: من لم يره إذا تبين له أنه كان طالعًا قضى الصوم، وهذا هو القياس في شهر الفطر وفي شهر النحر لكن شهر النحر ما علمت أحدًا قال: من رآه يقف وحده دون سائر الحاج وأنه ينحر في اليوم الثاني ويرمي جمرة العقبة ويتحلل دون سائر الحاج، وإنما تنازعوا في الفطر: فالأكثرون ألحقوه بالنحر وقالوا: لا يفطر إلا مع المسلمين; وآخرون قالوا: بل الفطر كالصوم ولم يأمر الله العباد بصوم واحد وثلاثين يوما، وتناقض هذه الأقوال يدل على أن الصحيح هو مثل ذلك في ذي الحجة. وحينئذ فشرط كونه هلالا وشهرًا شهرته بين الناس واستهلال الناس به حتى لو رآه عشرة ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة أو لكونهم لم يشهدوا به كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين وهذا معنى قوله:"صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون" ولهذا قال أحمد في روايته: يصوم مع الإمام وجماعة المسلمين في الصحو والغيم، قال أحمد: يد الله على الجماعة.) (مجموع الفتاوى (ج 25/ ص 114 ـ 118))
ومن هنا نعلم سفاهة الرأي الداعي لاجتماع أهل الشرع وأهل الحساب الفلكي في مؤتمر للتباحث في مسألة الأهلة؛ لأن أهل الفلك لهم أن يثبتوا شهرهم كما يريدون، ولكن هذا لا يعني المسلمين في قليل ولا كثير.
وهذا التفريق بين الشهرين له نظائر كثيرة في الشريعة ومنها:
المثال الأول:
أنا قد عهدنا العلماء يفرقون بين حقيقة الشيء في اللغة وفي العرف وعند أهل الاختصاص ،وبين حقيقته في الشرع ويبينون أن الأحكام كلها منوطة بالحقيقة الشرعية، فمن حلف ألا يصلي في هذا المكان ثم دعا فيه لم تلزمه كفارة مع أن الصلاة في اللغة هي الدعاء لكن الحكم معلق بالحقيقة الشرعية.
ومن هنا ضل المرجئة لما جعلوا الإيمان هو التصديق بالقلب أو باللسان فإن هذه حقيقته اللغوية، أما الإيمان في ديننا فهو مكون من أجزاء لا يغني شيء منها عن شيء وهي القول والعمل والاعتقاد.
المثال الثاني وهو مهم جداً:
إذا زنى رجل بامرأة متزوجة وحملت من ذلك الزنا وأثبتت نتائج الحمض النووي الذي لا تكاد تخطئ أن هذا الولد إنما هو نتاج سفاح بين أمه وبين رجل آخر غير زوجها؟ فما الحكم؟ الحكم - إجماعًا - أنّ هذا الولد للفراش وهو ابن الزوج بمقتضى ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم (الولد للفراش وللعاهر الحجر) ولا ينفى عنه النسب، ولا يحرم من الميراث إلا بحصول اللعان الشرعي بين الزوجين ،فإن لم يحصل اللعان الشرعي فهو ابن لهما جميعا!!.
فحاصل ذلك أن الأب الحقيقي الذي خرج الولد من صلبه، والذي ينتسب إليه بحسب علم الأحياء والبيولوجيا لم يعترف به الشارع، وكأنما جعل ماءه فاسدًا لا تأثير له، وجعل الأب الحقيقي هو الأب الشرعي؛ الولد للفراش، إذاً أصبح لدينا أبوان، الأب الشرعي، والأب الكيميائي البيولوجي وهذا في الحقيقة ليس أباً وليس له اعتبار ولا وزن ولا حكم و لا حق،فكذلك الشهر الشرعي والشهر الفلكي.
المثال الثالث :
صلاة الكسوف والخسوف هل تصلى حينما يرى المسلمون الكسوف والخسوف، أو حينما يعلم المسلمون به عن طريق الفلكيين المنجمين وإن لم يروه؟
ظاهر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في حديث عائشة عند الصحيحين " إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آياتِ اللهِ، لاَ يَنْخَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذلِكَ فَادْعُوا اللهَ وَكَبِّرُوا وَصَلُّوا وَتَصَدَّقُوا"، أي أن مشاهدة الخسوف أو الكسوف بأعيننا المجردة هو مناط الحكم، فإذا لم يُر الخسوف أو الكسوف لم نصلِ، لا تكذيباً لحصول الخسوف أو الكسوف، ولكن مناط الحكم شيء، وحصول الحدث في نفسه شيء آخر.
قال ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى ج16 (298 - 300) " .. وَالْعِلْمُ بِوَقْتِ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا لَكِنَّ هَذَا الْمُخْبِرَ الْمُعَيَّنَ قَدْ يَكُونُ عَالِمًا بِذَلِكَ وَقَدْ لَا يَكُونُ وَقَدْ يَكُونُ ثِقَةً فِي خَبَرِهِ وَقَدْ لَا يَكُونُ . وَخَبَرُ الْمَجْهُولِ الَّذِي لَا يُوثَقُ بِعِلْمِهِ وَصِدْقِهِ وَلَا يُعْرَفُ كَذِبُهُ مَوْقُوفٌ . وَلَوْ أَخْبَرَ مُخْبِرٌ بِوَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ لَمْ يُقْبَلْ خَبَرُهُ وَلَكِنْ إذَا تَوَاطَأَ خَبَرُ أَهْلِ الْحِسَابِ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَكَادُونَ يُخْطِئُونَ وَمَعَ هَذَا فَلَا يَتَرَتَّبُ عَلَى خَبَرِهِمْ عِلْمٌ شَرْعِيٌّ فَإِنَّ صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَالْخُسُوفِ لَا تُصَلَّى إلَّا إذَا شَاهَدْنَا ذَلِكَ).
وقال في الفروع: (وَيُعْمَلُ بِالْأَصْلِ فِي بَقَائِهِ وَوُجُودِهِ وَلَا عِبْرَةَ بِقَوْلِ الْمُنَجِّمِينَ ، وَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِه
*** للشيخ عبد الرحمن بن صالح الحجي