الحمد لله الذي يخلق ما يشاء ويختار ، فالخلق خلقه ، والأمر أمره ، ولا إله غيره ، والصلاة والسلام على الرسول المجتبى والنبي المصطفى ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه ، أما بعد :
فإن الناس يحيون على هذه الأرض ما شاء الله أن يحيون ، ثم يموتون ، ثم يبعثون ، ثم ينشرون ويحشرون ، فيقفون بين يدي الله ليحاسبون ويسألون ؛ عن أعمارهم فيما مضت ؟ وحياتهم كيف انقضت ؟ فينقسمون لذلك إلى منعمين ومعذبين ، وسعداء وأشقياء ، وبينهم في التفاوت في المنازل ما الله به عليم !
بل إن أهل النعيم المقيم في جنات النعيم ليتفاوتون في منازلهم ودرجاتهم كما بين الأرض وأبعد كوكب دريٍّ عنها ، ولذلك فالمؤمنون المنعمون في الجنة لا يتساوون في حبورهم وسرورهم ، ومكانتهم وكرامتهم ، مع أن مُلك أقل واحد فيهم مسيرة مائة عام ينفذه بصره .
تلك هي النهاية ، ولنعد هنا إلى البداية ...
فبداية التفاوت في المراتب واقع في الحياة الدنيا قبل الآخرة ، فإن الناس في تباين عجيب واختلاف غريب ، [ إن سعيكم لشتى ] و [ ولا يزالون مختلفين ] .
فإن من الناس من يعيش لنفسه ، يرعى مصالحه ، ويسوس أمره ، لا يرى غير صورته ، ولا يسمع إلا صوته ، ولا يشير إلا لنفسه ، قد انغلق على ذاته ، وعكف على شئونه ، وانفرد بحياته ، فليس له في الحياة أثر ، ولا في الواقع موقع .
إن سألت عنه غيره أنكره ، فلا أحد يعرفه ، وإن غاب لم يفتقد ، وإن حضر لا يفرح به ولا يستبشر ، ليس له موقع من الإعراب ، فحضوره كالغياب ، وسفره كالإياب ، ومجيئه كالذهاب ، وموته كالحياة ، فلا يُعرف بالمعروف ، ولا يذكر بخير ، فليس له على الناس يد ، وليس له عليهم فضل .
يموت حين يموت فتبكيه زوجته مجاملة ، ويتصنع عليه البكاء ولده ، ويتظاهر بفقده الجيران ، والحقيقة أنهم نسوه حالما دفنوه ، وأصبح مدفوناً تحت ركام النسيان !
هل يستوي هذا مع من تبكيه الدنيا ـ كل الدنيا ـ ويحزن عليه الناس ـ كل الناس ! عند موته أو غيابه ؟!
يغيب فيزيد حبه ، ويبعد فيتضاعف قربه ، تحن لذكره الأسماع ، وتتشوف لرؤيته الأنظار ، وتتشوق لمجالسته القلوب ، يتكلم فيسمع الناس ، ويأمر فيأتمر له الخلق ، ليس لسلطانه أو ماله أو حسبه ونسبه ، وإنما لسلطان حبه ، فيده تعطيهم ، وجاهه يشملهم ، وماله يصلهم ، وكلامه العذب يسل سخيمة نفوسهم ، وهداياه تزرع المحبة في قلوبهم ، وعطاياه تفرج عن مكروبهم وتنفس عن منكوبهم ، فله عليهم ـ بعد الله ـ سابقة الفضل !
ترتفع أيديهم له بالدعاء ، وتنطلق ألسنتهم عليه بالثناء ، وتخفق قلوبهم بحبه ، وتحن نفوسهم لقربه ، وإنما تُغشى بيوت الكرماء ، وتقصد منازل النبلاء !
وهنا تبرز الإجابة على السؤال الكبير : كيف أعيش كبيراً ؟!
والجواب الصواب ؛ تعيش كبيراً ، وتموت كبيراً ، وتبعث ـ إن شاء الله ـ كبيراً ، إذا عشت لغيرك ، ترعى مصالح الناس ، وتقوم على منافعهم ، وتفني نفسك في خدمتهم ، وتسعى لمصلحتهم ، أصابك من جرّاء ذلك ما أصابك ، فلا تعطيهم لتأخذ منهم ، وإنما تجود بالموجود ، وتتعنى لحصول المفقود ، لتعطي من حُرم ، وتنصر من ظُلم ، وتعين الضعيف ، وتؤمن الخائف ، وتكسب المعدوم ، وتمنح المحروم ، وتشجع العامل ، وتنفخ في رماد الخامل ، وتعلم الجاهل ، وتوظف العاطل ، وترحم اليتيم ، وتداوي السقيم ، وتنفس عن المكروب ، وتفرج عن المنكوب ، وتعيد حق المسلوب ، فلا يعرف الناس منك إلا المعروف ، فأنت به موصوف ، وإلى بذله ملهوف ، فعليك قلوب الناس تطوف ، وإليك نفوس الخلق تميل ، فليس لك في نفوس من عرفك من الأحياء عديل أو مثيل !!
لعمرك ما الرزية فقد مال ولا شاة تموت ولا بعير
ولكــــن الــرزية فـقــد حُرٍّ يموت بموته خلق كثير
وإليك المثال على رجل ليس كالرجال ، وإنما سيد من ساداتهم ، وكبير من كبرائهم ، وعظيم من عظمائهم ، لأنه عاش للناس إماماً ، فقال تعالى عنه : [إن إبراهيم كان أمَّة من الناس ]
فهلاَّ دعوت الله ...[ واجعلنا للمتقين إماماً ] .