فمبارك عليك التقاعد!
لقد أذهب الله عنك هَمّ الدنيا، والتزام الوظيفة، وارتباط العمل، لتتفرغ له، وتعكف على عبادته، وتحسن صلتك به، كيف لا، وقد انتهت أشغال الدنيا لتعكف على أشغال الآخرة التي خُلِقتَ من أجلها، وَوُجِدتَ لتستعد لها؟
فها أنت الآن تنام قرير العين، وقد كنت تتقلب على أحر من الجمر، فالخلق هُجَّع نيام، وأنت كالملدوغ في فراشك، مهموم من غدك، ومشغول بوظيفتك، فلك الليل كلُّه، ولك من النَّهار جُلّه.
فهاهو اليوم أصبح طوع يمينك، وملك يدك، بعد أن كان ممزقًا مقطعًا، كلٌّ ينهشه من جانب، فمن يشاركك فيه اليوم؟!
ذهبت عنك الهموم، وغابت عنك الغموم، وأراحك الله من معاملة أكثر الخلق، فماذا بقي لك غير الخالق؟!
نحسبك قد أبليت بلاء حسنًا، وأفرغت ما في كنانتك، وبذلت ما في جعبتك، وقد آن لك أن ترتاح من معاناة الدنيا، لتتفرغ إلى شغل أهم وأعظم وأكرم مما سبق، فالخيل تبذل أقصى قوتها عندما تلوح لها بوارق خطوط النهاية، لتفوز بالسباق مع الرفاق!
وعندما تمر بك الذكرى لماضيك البعيد، تلمح في الأفق ذكريات لا تُنسى، ومواقف لا تغيب عن الذهن، مع أناس كانوا يعملون معك، أو تعاملت معهم، فأين هم؟!
تخطّفهم الموت، وفاجأهم هادم اللذات، وانتقل بهم من القصور إلى القبور، ومن الدنيا إلى الآخرة، دون سابق إنذار، وقد كانوا يؤمّلون آمالاً لا منتهى لها، فقطعت حبالها، وجاءت آجالها، فغدوا خبرًا إثر أثر، فأين فلان الذي كان معك، ذهب دون أن يودعك؟!
وأين فلان الذي كان يخبرك عن آماله وأحلامه، رحل وغاب إلى حيث لا يمكنه الإياب؟!
لم يعد لهم في حياتك بعد الممات إلا الذكريات!
ومن رحمة الله بك، وفضله عليك، أن مدَّ في عمرك، وأطال في حياتك حتى وقفت على وقت التقاعد الذي كانوا يؤملون، ليرتاحوا من وصب الدنيا ونصبها، فانتقلوا إلى الآجلة دون إدراك ما يشتهون من العاجلة.
فهل تأملت فضل الله عليك؟!
إن طول العمر مع حسن العمل، فضل من الله يمتن به على من يشاء من عباده، فإطالة عمر المسلم زيادة له في فرص إدراك الثواب والنجاة من العقاب، وتحصيل أكبر قدر من الثواب والأجر.
فعن عبيد بن خالد السلمي قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين رجلين؛ فقتل أحدهما ومات الآخر بعده بجمعة أو نحوها، فصلّينا عليه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما قلتم ؟" فقلنا : دعونا له، وقلنا : اللهم اغفر له وألحقه بصاحبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فأين صلاته بعد صلاته، وصومه بعد صومه ، وعمله بعد عمله ؛ إن بينهما كما بين السماء والأرض" .
وعن عبدالله بن شداد ـ رحمه الله ـ قال: إن نفرًا من بني عذرة ثلاثة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأسلموا، قال: فقال النبيصلى الله عليه وسلم : " من يكفنيهم؟ قال: طلحة أنا، قال: فكانوا عند طلحة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثًا فخرج أحدهم فاستشهد ، قال: ثم بعث بعثًا فخرج فيهم آخر فاستشهد، قال: ثم مات الثالث على فراشه ، قال طلحة : فرأيت هؤلاء الثلاثة الذين كانوا عندي في الجنة ، فرأيت الميت على فراشه أمامهم ، ورأيت الذي استشهد أخيرًا يليه ، ورأيت الذي استشهد أولهم آخرهم ، قال: فدخلني من ذلك ، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وما أنكرت من ذلك !؟ ليس أحد أفضل عند الله من مؤمن يعمّر في الإسلام لتسبيحه وتكبيره وتهليله " .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجلان من بِلَى من قضاعة ، أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستشهد أحدهما ، وأُخِّر الآخر سنة ، فقال طلحة بن عبيدالله رضي الله عنه : فرأيت المؤخر منهما أُدخل الجنة قبل الشهيد ، فتعجبت لذلك ، فأصبحت فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم أو ذُكِرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أليس قد صام بعده رمضان ، وصلى ستة آلاف ركعة ، وكذا وكذا ركعة صلاة سنة " .
وفي رواية، قال لهم رسول اللهصلى الله عليه وسلم : " من أيِّ ذلك تعجبون ؟" فقالوا : يا رسول الله ! هذا كان أشدّ الرجلين اجتهادًا ، ثم استشهد ، ودخل هذا الآخر الجنة قبله ؟ . فقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم : " أليس قد مكثَ هذا بعدهُ سنةً ؟" قالوا : بلى. قالصلى الله عليه وسلم : " وأدركَ بعده رمضان فصام ، وصلى كذا وكذا من سجدةٍ في السَّنَةِ ؟" قالوا : بلى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "فما بينهما أبعدُ مِمَّا بين السَّماء والأرض" .
فدونك زمن المهلة ، فتزود منه ، قبل حلول وقت النقلة ، ففي مثل هذا فليتنافس المتنافسون الصادقون، وليعمل العاملون المُجدُّون ، فإلى الله تُرجعون.
[ ملحوظة: يراجع كتابي؛ إلى متقاعد ]