بسم الله الرحمن الرحيم
كتب الأمير عبدالعزيز بن محمد بن سعود رحمه الله وهو إذ ذاك قد ناهز الاحتلام من الدرعية إلى الشيخ رحمه الله وهو في العيينة يسأله أن يكتب له تفسير الفاتحة، فكتب له الشيخ:
- اعلم أرشدك الله لطاعته، وأحاطك بحياطته، وتولاك في الدنيا والآخرة، أن مقصود الصلاة وروحها ولبها هو إقبال القلب على الله تعالى فيها، فإذا صليت بلا قلب فهي كالجسد الذي لا روح فيه، ويدل على هذا قوله تعالى: (فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ). ففسر السهو بالسهو عن وقتها- أي: إضاعته- والسهو عمّا يجب فيها، والسهو عن حضور القلب، ويدل على ذلك الحديث الذي في صحيح مسلم أن رسول الله ق قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقر أربعًا لا يذكر الله فيها إلا قليلاً). فوصفه بإضاعة الوقت بقوله: (يرقب الشمس) وبإضاعة الأركان بذكره النقر، وبإضاعة حضور القلب بقوله: (لا يذكر الله فيها إلا قليلاً).
إذا فهمت ذلك فافهم نوعًا واحدًا من الصلاة، وهو قراءة الفاتحة لعل الله أن يجعل صلاتك في الصلوات المقبولة المضاعفة المكفرة للذنوب.
ومن أحسن ما يفتح لك الباب في فهم الفاتحة حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في صحيح مسلم، قال سمعت رسول الله ق يقول: (يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). قال الله: حمدني عبدي. فإذا قال: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ). قال الله: أثنى علي عبدي، فإذا قال: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). قال الله: مجدني عبدي. فإذا قال: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل. فإذا قال: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ). قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل). انتهى الحديث.
فإذا تأمل العبد هذا، وعلم أنها نصفان: نصف لله، وهو أولها إلى قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ).
ونصف للعبد دعاء يدعو به لنفسه، وتأمل أن الذي علَّمه هذا هو الله تعالى، وأمره أن يدعو به ويكرره في كل ركعة، وأنه سبحانه من فضله وكرمه ضَمِنَ إجابة هذا الدعاء إذا دعاه بإخلاص وحضور قلب، تبين له ما أضاع أكثر الناس.
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
وها أنا أذكر لك بعض معاني هذه السورة العظيمة لعلك تصلي بحضور قلب، ويعلم قلبك ما نطق به لسانك، لأن ما نطق به اللسان ولم يعقد عليه القلب ليس بعمل صالح، كما قال تعالى: (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِم).
وأبدأ بمعنى الاستعاذة، ثم البسملة، على طريق الاختصار والإيجاز:
فمعنى: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم). ألوذ بالله، وأعتصم بالله، وأستجير بجنابه من شر هذا العدو، أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدني عن فعل ما أمرت به، أو يحثني على فعل ما نهيت عنه، لأنه أحرص ما يكون على العبد إذا أراد عمل الخير من صلاة أو قراءة أو غير ذلك، وذلك أنه لا حيلة لك في دفعه إلا بالاستعاذة بالله لقوله تعالى: (إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ). فإذا طلبت من الله أن يعيذك منه، واعتصمت به، كان هذا سببًا في حضور القلب. فاعرف معنى هذه الكلمة ولا تقلها باللسان فقط كما عليه أكثر الناس.
وأما البسملة، فمعناها: أدخل في هذا الأمر من قراءة أو دعاء أو غير ذلك (ببِسْمِ اللَّهِ). لا بحولي ولا بقوتي، بل أفعل هذا الأمر مستعينا بالله، متبركا باسمه تبارك وتعالى، هذا في كل أمر تسمي في أوله من أمر الدين أو أمر الدنيا، فإذا أحضرت في نفسك أن دخولك في القراءة بالله مستعينا به، متبرئا من الحول والقوة، كان هذا أكبر الأسباب في حضور القلب، وطرد الموانع من كل خير.
(الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اسمان مشتقان من الرحمة أحدهما أبلغ من الآخر، مثل العلام والعالم، قال ابن عباس: (هما اسمان رقيقان أحدهما أرق من الآخر). أي أكثر من الآخر رحمة.
وأما الفاتحة فهي سبع آيات: ثلاث ونصف لله، وثلاث ونصف للعبد، فأولها: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فاعلم أن الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري، فأخرج بقوله الثناء باللسان: الثناء بالفعل الذي يسمى لسان الحال، فذلك من نوع الشكر.
وقوله: (على الجميل الاختياري). أي الذي يفعله الإنسان بإرادته، وأما الجميل الذي لا صنع له فيه مثل الجمال ونحوه، فالثناء به يسمى مدحا لا حمدا.
والفرق بين الحمد والشكر: أن الحمد يتضمن المدح والثناء على المحمود بذكر محاسنه سواء كان إحسانا إلى الحامد أو لم يكن، والشكر لا يكون إلا على إحسان المشكور، فمن هذا الوجه الحمد أعم من الشكر، لأنه يكون على المحاسن والإحسان، فإن الله يحمد على ما له من الأسماء الحسنى وما خلقه في الآخرة والأولى، ولهذا قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً). الآية. وقال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ). إلى غير ذلك من الآيات.
وأما الشكر فإنه لا يكون إلا على الإنعام; فهو أخص من الحمد من هذا الوجه، لكنه يكون بالقلب واليد واللسان، ولهذا قال تعالى: (اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً). والحمد إنما يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه الشكر أعم من جهة أنواعه، والحمد أعم من جهة أسبابه.
والألف واللام في قوله (الْحَمْدُ). للاستغراق، أي جميع أنواع الحمد لله لا لغيره، فأما الذي لا صنع للخلق فيه مثل خلق الإنسان، وخلق السمع والبصر والسماء والأرض والأرزاق وغير ذلك فواضح، وأما ما يحمد عليه المخلوق مثل ما يثنى به على الصالحين والأنبياء والمرسلين، وعلى من فعل معروفًا خصوصًا إن أسداه إليك، فهذا كله لله أيضًا بمعنى أنه خلق ذلك الفاعل، وأعطاه ما فعل به ذلك، وحببه إليه وقواه عليه، وغير ذلك من أفضال الله الذي لو يختل بعضها لم يحمد ذلك المحمود، فصار الحمد لله كله بهذا الاعتبار.
وأما قوله: (لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ). فالله علم على ربنا تبارك وتعالى، ومعناه: الإله أي المعبود لقوله: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ). أي المعبود في السموات والمعبود في الأرض (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً). الآيتين.
وأما الرب فمعناه المالك المتصرف. وأما (العالمين). فهو اسم لكل ما سوى الله تبارك وتعالى؛ فكل ما سواه من ملك ونبي وإنسي وجني وغير ذلك مربوب مقهور يتصرف فيه، فقير محتاج؛ كلهم صامدون إلى واحد لا شريك له في ذلك، وهو الغني الصمد. وذكر بعد ذلك (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وفي قراءة أخرى: (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ). فذكر في أول هذه السورة التي هي أول المصحف الألوهية والربوبية والملك. كما ذكره في آخر سورة في المصحف: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ- مَلِكِ النَّاسِ- إِلَهِ النَّاسِ).
فهذه ثلاثة أوصاف لربنا تبارك وتعالى ذكرها مجموعة في موضع واحد في أول القرآن; ثم ذكرها مجموعة في موضع واحد في آخر ما يطرق سمعك من القرآن؛ فينبغي لمن نصح نفسه أن يعتني بهذا الموضع ويبذل جهده في البحث عنه، ويعلم أن العليم الخبير لم يجمع بينهما في أول القرآن ثم في آخره إلا لما يعلم من شدة حاجة العباد إلى معرفتها، ومعرفة الفرق بين هذه الصفات; فكل صفة لها معنى غير معنى الصفة الأخرى، كما يقال: محمد رسول الله، وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم فكل وصف له معنى غير ذلك الوصف الآخر.
إذا عرفت أن معنى الله هو الإله; وعرفت أن الإله هو المعبود، ثم دعوت الله أو ذبحت له أو نذرت له فقد عرفت أنه الله. فإن دعوت مخلوقًا طيبًا أو خبيثًا، أو ذبحت له أو نذرت له فقد زعمت أنه هو الله. فمن عرف أنه قد جعل (شمسان). أو(تاجًا). برهة من عمره هو الله، عرف ما عرفت بنو إسرائيل لما عبدوا العجل، فلما تبين لهم ارتاعوا، وقالوا ما ذكر الله عنهم: (وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ).
وأما الرب فمعناه المالك المتصرف، فالله تعالى مالك كل شيء وهو المتصرف فيه، وهذا حق، ولكن أقر به عباد الأصنام الذين قاتلهم رسول الله ق كما ذكر الله عنهم في القرآن في غير موضع كقوله تعالى: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ). إلى قوله: (فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ).
فمن دعا الله في تفريج كربته وقضاء حاجته، ثم دعا مخلوقًا في ذلك، خصوصًا إن اقترن بدعائه نسبة نفسه إلى عبوديته، مثل قوله في دعائه (فلان عبدك). أو قول (عبد علي). أو (عبد النبي) أو (الزبير). فقد أقر له بالربوبية. وفي دعائه عليًّا أو الزبير بدعائه الله تبارك وتعالى وإقراره له بالعبودية، ليأتي له بخير أو ليصرف عنه شرًا، مع تسمية نفسه عبدًا له، قد أقر له بالربوبية، ولم يقر لله بأنه رب العالمين كلهم، بل جحد بعض ربوبيته. فرحم الله عبدًا نصح نفسه، وتفطن لهذه المهمات، وسأل عن كلام أهل العلم، وهم أهل الصراط المستقيم، هل فسروا السورة بهذا أم لا؟
وأما الملك فيأتي الكلام عليه; وذلك أن قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). وفي القراءة الأخرى (مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ). فمعناه عند جميع المفسرين كلهم ما فسره الله به في قوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ).
فمن عرف تفسير هذه الآية وعرف تخصيص الملك بذلك اليوم، مع أنه سبحانه مالك كل شيء ذلك اليوم وغيره، عرف أن التخصيص لهذه المسألة الكبيرة العظيمة التي بسبب معرفتها دخل الجنة من دخلها، وبسبب الجهل بها دخل النار من دخلها.
فيالها من مسألة لو رحل الرجل فيها أكثر من عشرين سنة لم يوفها حقها، فأين هذا المعنى والإيمان بما صرح به القرآن، مع قوله ق: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئًا) رواه أحمد والبخاري. من قول صاحب البردة:
ولن يضيق رسول الله جاهك بي
إذا الكريم تحلى باسم منتقم
فإن لي ذمة منه بتسميتي
محمدا وهو أوفى الخلق بالذمم
إن لم تكن في معادي آخذا بيدي
فضلا وإلا فقل يا زلة القدم
فليتأمل من نصح نفسه هذه الأبيات ومعناها، ومن فتن بها من العباد، وممن يدعى أنه من العلماء، واختاروا تلاوتها على تلاوة القرآن، هل يجتمع في قلب عبد التصديق بهذه الأبيات والتصديق بقوله: (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ). وقوله ق: (يا فاطمة بنت محمد! لا أغني عنك من الله شيئًا). لا والله، لا والله، لا والله إلا كما يجتمع في قلبه أن موسى صادق، وأن فرعون صادق، وأن محمدًا ق صادق على الحق، وأن أبا جهل صادق على الحق. لا والله.
والله ما استويا ولن يتلاقيا حتى تشيب مفارق الغربان.
فمن عرف هذه المسألة وعرف البردة، ومن فتن بها عرف غربة الإسلام، وعرف أن العداوة واستحلال دمائنا وأموالنا ونسائنا ليس عند التكفير والقتال، بل هم الذين بدؤونا بالتكفير والقتال، بل عند قوله: (فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً). وعند قوله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ). وقوله: (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ).
فهذا بعض المعاني في قوله: (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ). بإجماع المفسرين كلهم. وقد فسرها الله سبحانه في سورة: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ). كما قدمت لك.
واعلم أرشدك الله أن الحق لا يتبين إلا بالباطل كما قيل: وبضدها تتبين الأشياء.
فتأمل ما ذكرت لك ساعة بعد ساعة، ويومًا بعد يوم، وشهرًا بعد شهر، وسنة بعد سنة لعلك أن تعرف ملة أبيك إبراهيم ودين نبيك محمد عليهما الصلاة والسلام فتحشر معهما; ولا تُصد عن الحوض يوم الدين، كما يُصد عنه من صد عن طريقهما.
ولعلك أن تمر على الصراط يوم القيامة، ولا تزل عنه كما زل عن صراطهما المستقيم في الدنيا من زل، فعليك بإدامة دعاء الفاتحة مع حضور قلب وخوف وتضرع.
وأما قوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). فالعبادة كمال المحبة وكمال الخضوع، والخوف والذل. وقُدّم المفعول وهو (إياك) وكُرر للاهتمام والحصر، أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نتوكل إلا عليك، وهذا كمال الطاعة; والدين كله يرجع إلى هذين المعنيين: فالأول التبرؤ من الشرك، والثاني التبرؤ من الحول والقوة.
فقوله: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ). أي إياك نوحد، ومعناه أنك تعاهد ربك أن لا تشرك به في عبادته أحدا، لا ملكًا ولا نبيًا ولا غيرهما، كما قال للصحابة: (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ). فتأمل هذه الآية واعرف ما ذكرت لك في الربوبية، أنها التي نسبت إلى (تاج) و(محمد بن شمسان). فإذا كان الصحابة لو يفعلونها مع الرسل كفروا بعد إسلامهم فكيف بمن فعلها في تاج وأمثاله؟
وقوله: (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). هذا فيه أمران: أحدهما سؤال الإعانة من الله، وهو التوكل والتبرؤ من الحول والقوة. وأيضا طلب الإعانة من الله كما مرَّ أنها من نصف العبد.
وأما قوله: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ). فهذا هو الدعاء الصريح الذي هو حظ العبد من الله، وهو التضرع إليه والإلحاح عليه أن يرزقه هذا المطلب العظيم، الذي لم يعط أحد في الدنيا والآخرة أفضل منه، كما منَّ الله على رسوله ق بعد الفتح بقوله: (وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً). والهداية ههنا التوفيق والإرشاد.
وليتأمل العبد ضرورته إلى هذه المسألة، فإن الهداية إلى ذلك تتضمن العلم والعمل الصالح على وجه الاستقامة والكمال والثبات على ذلك إلى أن يلقى الله.
والصراط: الطريق الواضح والمستقيم الذي لا عوج فيه، والمراد بذلك الطريق الذي أنزله الله على رسوله ق وهو (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ). وهم رسول الله ق وأصحابه، وأنت دائمًا في كل ركعة تسأل الله أن يهديك إلى طريقهم; وعليك من الفرائض أن تصدق الله أنه هو المستقيم، وكلّ ما خالفه من طريق أو علم أو عبادة، فليس بمستقيم، بل معوج.
وهذه أول الواجبات من هذه الآية، وهو اعتقاد ذلك بالقلب.
وليحذر المؤمن من خداع الشيطان، وهو اعتقاد ذلك مجملاً وتركه مفصلاً، فإن أكفر الناس من المرتدين يعتقدون أن رسول الله ق على الحق وأنّ ما خالفه باطل، فإذا جاء بما لا تهوى أنفسهم، فكما قال تعالى: (فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ).
وأما قوله: (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ). فالمغضوب عليهم: هم العلماء الذين لم يعملوا بعلمهم، والضالون: العاملون بلا علم، فالأول صفه اليهود، والثاني صفة النصارى.
وكثير من الناس إذا رأى في التفسير أن اليهود مغضوب عليهم، وأن النصارى ضالون، ظن الجاهل أن ذلك مخصوص بهم، وهو يقر أن ربه فرض عليه أن يدعو بهذا الدعاء، ويتعوذ من طريق أهل هذه الصفات، فيا سبحان الله! كيف يعلمه الله ويختار له، ويفرض عليه أن يدعو به دائمًا مع ظنه أنه لا حذر عليه منه، ولا يتصور أنه يفعله، هذا من ظن السوء بالله. والله أعلم، هذا آخر الفاتحة.
أما آمين فليست من الفاتحة، ولكنها تأمين على الدعاء، معناها: (اللهم استجب). فالواجب تعليم الجاهل لئلا يظن أنها من كلام الله. والله أعلم.