قال تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَـكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُون - وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُون). [آل عمران 79-80].
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
إذا عرفت أن سبب نزولها قول أهل الكتاب: نحن مسلمون نعبد الله إلا إن كنت تريد أن نعبدك، عرفت أنها من أوضح ما في القرآن من تقرير الإخلاص، والبراءة من الشرك، ومن أعظم ما يبين لك طريق الأئمة المهديين من الأئمة المضلين؛ وذلك أن الله وصف أئمة الهدى بالنفي والإثبات، فنفى عنهم أن يأمروا أتباعهم بالشرك بهم، أو بالشرك بالملائكة والأنبياء وهم أصلح المخلوقات، وأثبت أنهم يأمرون أتباعهم أن يصيروا ربانيين، فإذا كان من أنزله الله بهذه المنزلة لا يتصور أن يأمر أتباعه بالشرك به ولا بغيره من الأنبياء والملائكة، فغيرهم أظهر وأظهر.
وإذا كان الأمر الذي يأمرهم به كونهم ربانيين تبين طريقة الأنبياء وأتباعهم من طريقة أئمة الضلال وأتباعهم. ومعرفة الإخلاص والشرك، ومعرفة أئمة الهدى وأئمة الضلال أفضل ما حصل المؤمن.
لكن فيه: من البيان قول اليهود إلا إن كنت تريد أن نعبدك كما عبدت النصارى عيسى، وقول النصارى تريد ذلك، أي إلا إن كنت تريد أن نعبدك كما عبدت اليهود عزيرًا! إن عبادة غير الله من أنكر المنكرات ببديهة العقل، ولكن الهوى يعمي ويصم.
وفيه: معرفة الإنسان بعيب عدوه، ولا يعرف ما فيه من ذلك العيب بعينه ولو كان فيه أضعافا مضاعفة.
وفيه: ما على من قرأ القرآن من الحق من تعلم معانيه.
وفيه أن عليه أن يعمل به.
وفيه: أن يكون ربانيا.
وفيه: أن ذلك بسبب درس الكتاب وعلمه وتعليمه.
وفيه: أن المسلم إذا أشرك بالأنبياء والصالحين كفر بعد إسلامه.
وفيه: معرفة أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم بما هو عليه من العدل والتواضع كيف يتفوهون له بهذا الكلام، وهم تحت يده محتاجون له.
وفيه: أن من أشرك بشيء فقد اتخذه ربًّا.
وفيه: أن قوله في القرآن: (من دون الله). ليس كما يقول الجاهلون لأن أهل الكتاب لا يتركون عبادة الله.
وقوله عز وجل: (وَإِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ - فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
فيه: ما هو من أبين الآيات للخاص والعام، وكونه صلى الله عليه وسلم مذكورا مبشرا به في كتب الأنبياء.
وفيه: حجة على أن دعوته عامة في الظاهر والباطن.
وفيه: أن الإيمان به لا يكفي عن نصرته، بل لا بد من هذا وهذا.
وفيه: أخذه تعالى الميثاق على الأنبياء بذلك دليل على شدته إلا على من يسره الله عليه.
وفيه: أن من آتاه الله الكتاب والحكمة أحق بالانقياد للحق إذا جاء به من بعده، بخلاف ما عرف من حال الأكثر من ظنهم أنه لو اتبعه غيرهم فهو نقص في حقهم.
وفيه: مزيد التأكيد بقوله: (أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي).
وفيه: إشهادهم مع شهادته سبحانه.
وفيه: أن من تولى بعد ذلك فجرمه أكبر.
وفيه: أن الآخر مصدق لما معهم لا مخالف له.
فإذا كان هذا في أهل الملل فكيف بأهل الملة الواحدة إذا ضلوا ثم جاءهم من يرشدهم إلى دينهم الذي أنزل الله عليهم، وهو الذي ينتحلونه؟ فإن تولوا بعد معرفته فأولئك هم الفاسقون.
فإن جمعوا مع التولي تكذيبه، وإن جمعوا مع التكذيب الاستهزاء; فإن جمعوا مع ذلك عداوته الشديدة، فإن أضافوا إلى ذلك تكفير من صدق كتابهم ونبيهم واستحلال دمه وماله، فإن أضافوا إلى ذلك كله اتباع دين المشركين أعداء نبيهم، ونصروه بما قدروا عليه، وبذلوا النفوس والأموال في نصرته، وعداوة دين نبيهم وإزالته من الأرض، حتى لا يذكر فيها فالله المستعان. و(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ).