آيات يحتج بها المجادلون عن المشركين ولم ينزلوها منازلها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الله يحب من عباده تدبر القرآن، وإنزاله منازله، وجمع متفرقه، وتفسير بعضه ببعض. قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ}القمر32، وقال: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}ص29.

وهذه نماذج لآيات يكثر الاحتجاج بها في أخطر المسائل وهي مسألة: (تكفير المشرك والبراءة منه أو التماس العذر له)، ولنأخذ مجازاً – قلماً- لنضع خطاً تحت بعض الكلمات التي تعد مفاتيح لفهم الآية؛ وبالله التوفيق ومنه الفهم.

أولاً: قوله تعالى:{رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً }النساء165.

ضع خطاً تحت ثلاث كلمات منها لتفهم الآية وهي الكلمات الآتية.

1- قوله: (مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ) وقيام الحجة لا يتوقف على البشارة والنذارة وإنما هي زيادة إعذار بدليل أن قوماً ماتوا من تغيير عمرو بن لحي للدين إلى بعثة نبينا عليه الصلاة والسلام ولم يأتهم نذير وما أنذر آباؤهم فهم غافلون ومع ذلك هم كفار في النار؛ وقال تعالى لمن أدرك النذير:{أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ}المائدة19 .

2- قوله (حُجَّةٌ) ما معناها؟ إذا تتبعنا نظائرها في القرآن وجدنا المراد بها الجدل والخصومة إلا إذا أضيفت الحجة لله فهي القاطعة كقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}الأنعام83، وقوله: {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ}الأنعام149، ومن المعنى الأول وهو الجدل والخصومة قوله تعالى: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ}الشورى15، أي لا جدال، وقوله: {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}البقرة150، وقوله: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ}غافر47، وقوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ}البقرة258، وأكثر القرآن على ذلك.

قال الخطيب البغدادي في كتاب (الفقيه والمتفقه) ص2/46: (وقد ورد القرآن بتسمية ما ليس بحجة في الحقيقة حجة، قال الله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ}النساء165. وقال تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ}البقرة150 فأما الآية الأولى فإن تقديرها: بعثت الرسل، وأزحت العلل، حتى لا يقولوا يوم القيامة: إنا كنا عن هذا غافلين، ولا يقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولاً، فأزاح الله العلل بالرسل، حتى لا يكون لهم حجة فيما ارتكبوه من المخالفة، ويجب أن تعلم أن الله تعالى لو ابتدأ الخلق بالعذاب لم يخرج بذلك عن الحكمة، ولا كانت عليه حجة وله أن يفعل ذلك، لأنه قسم من أقسام التصرف في ملكه، فبان أن ما يقولونه ليس بحجة، إذ ليس ذلك من شرط عذابه، وإنما سماه حجة؛ لأنه يصدر من قائله مصدر الحجاج والاستدلال) ا.هـ.

وحينئذ يكون معنى الآية أن الرسل من أسباب إرسالها: قطع حجج الناس وجدالهم بالباطل لأن الإنسان أكثر شيء جدلاً فتكون هذه الآية نظيرة قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ (أي عن الجدل) حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ}البينة1.

وقوله: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى }طه134، وقوله: {وَلَوْلَا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}القصص47، وقوله: {أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ}الأنعام156، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

3- قوله: (بَعْدَ الرُّسُلِ) هل المراد بها بعد إتيان الرسل لكل أحد أو لكل قرية فهذا منفي في القرآن لقوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً}الفرقان51، وقوله:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ}القصص59.

أو أن المراد بعد بعث الرسل ينقطع جدل الناس ولججهم وعليهم البحث عن الرسل واتباعهم فمن الله الإرسال وعلى الرسل البلاغ وعلى الناس البحث والإيمان.

فهذا هو المعنى الصحيح المطابق للآية الثانية: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء15.

الخلاصة: أن معنى الآية أن الرسل أرسلوا لترغيب الناس في التوحيد وترهيبهم من الشرك وعاقبته لئلا يكثر لجج الناس وخصومتهم فصار بعث الرسل قاطعاً لجدالهم بالباطل وأعذارهم الواهية.

ثانياً: قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء15.

ضع خطاً تحت قوله: (مُعَذِّبِينَ)، وقوله: (نَبْعَثَ).

1- قوله: (مُعَذِّبِينَ) فالآية تتحدث عن العذاب لا عن قيام الحجة فلم يقل جل وعلا: (وما كانوا مشركين حتى نبعث رسولاً) ويدل لقيام الحجة قبل الرسل أن نوحاً عليه السلام هو أول رسول للخلق بالإجماع ومع ذلك قال الله له: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}نوح1، فهم استحقوا العذاب بالشرك ولكنَّ الله لا يعاجلهم حتى ينذرهم لأنه سبحانه يحب العذر، ثم اختلف في هذا العذاب هل المراد به عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا الذي من الله أو عذاب الدنيا الذي بأيدينا وهذا الثالث أضعف لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يبيت المشركين بعد انتشار دعوته دون بيان. والاحتمال الثاني يدل له سباق الآية ولحاقها لأنه قال قبلها: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}الإسراء15، وقال بعدها: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً}الإسراء16، والاحتمال الأول هو عذاب الآخرة مشروط بالشرط الذي في الآية.

2- قوله: {حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} فالشرط أن يبعث الله الرسل وقد فعل منذ أن بعث نوحاً ولذلك أغرق أهل الأرض كلهم بدعوة نوح عليه السلام ولم يقل الله: (حتى يأتي كل أحد أو كل قرية رسول). وبهذا يتضح معنى الآية وأنها في عذاب مخصوص اشترط له بعث الرسل.

ثالثاً: قوله تعالى:{وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ}الأنعام19.

ضع خطاً تحت قوله: (لأُنذِرَكُم) فالآية في النذارة وتقدم أنها ليست شرطاً في قيام الحجة بل هي زيادة في الحجة في وقطع العذر والدليل أن أهل مكة قبل البعثة - وفيهم والدا الرسول عليه الصلاة والسلام- كفار وفي النار مع أن الله قال فيهم: {وَمَا آتَيْنَاهُم مِّن كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِن نَّذِيرٍ}سبأ44، وقال: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ }يس6.

رابعاً: قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُوا بَلَى}الملك8.

ضع خطاً تحت قوله (فَوْجٌ) وقوله (نَذِيرٌ).

1- قوله تعالى: (فَوْجٌ) ما مقدار هذا الفوج؟ لأنا نعلم أن كفار قريش قبل البعثة لم يأتهم نذير مع أنهم سيجيبون بقولهم (بلى) فهل يكون كفار أمة العرب من إسماعيل إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم فوجاً واحداً، ومثلها قوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً}الزمر71.

2- قوله تعالى: (نَذِيرٌ) هل هذه الكلمة مرادفة لقوله: (رسول) أو أن النذير أعم من الرسول؟! الاحتمال الثاني هو الصحيح والدليل سورة القمر قال الله عن كل أمة: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ}القمر23، وقال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ}القمر33، {وَلَقَدْ جَاء آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ}القمر41، وقوله تعالى:{وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ}فاطر37، فسره بعض الصحابة بالشيب؛ قال ابن عطية في تفسيره في سورة الفرقان11/3:

"النذير: المحذر من الشر، والرسول من عند الله نذير وقد يكون النذير ليس برسول،كما ورد في ذي القرنين ،وكما ورد في رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الجن فإنهم نذر وليسوا برسل".

وصلى الله على عبده ورسوله محمد.